هل بدأت أميركا بعَدّها التنازلي؟

بالعربي: كان لأميركا دور هام في إسقاط منظومة الاتحاد السوفياتي في العام 1991، وقد ساعدتها في ذلك مجموعة من العوامل، أهمها التوسُّع الجغرافي للاتحاد، والذي أثقل كاهله من الناحية الاقتصادية، ونشوء القوميات المتعددة، وسباق التسلح مع أميركا، والذي كلّف الاتحاد السوفياتي مبالغ طائلة، وأخيراً وليس آخراً الرؤية التي حملها كل من الرئيسين يلتسين وغورباتشوف، والتي تدعو إلى الانفتاح على الغرب، والانتقال التدريجي من الاقتصاد الموجَّه إلى الاقتصاد الحر، والكلام عن التعاون الأميركي في هذا المجال.

تفلتت أميركا بعدها من القيود الدولية (بعد أن كان الاتحاد السوفياتي رأس حربة لها، وله نفوذه في العديد من الدول، وفي منطقة الشرق الأوسط، وله وجهة نظر مختلفه عن أميركا في الكثير من القضايا الهامة والحساسة، ومنها القضية الفلسطينية)، وكانت صاحبة القول الفصل في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وإن جاءت مخالفة لقرارات مجلس الأمن، وأنشأت التحالفات الدولية خارج هذا الإطار الدولي، كما فعلت بعد قرارها بالحرب ضد العراق في العام 2003.

لم تدُمْ أحادية السيطرة الأميركية على العالم طويلاً، حيث أدركت روسيا المخاطر التي تتعرض لها بسسب هذه الأحادية، وقد عبّر عن ذلك الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن الدولي في العام 2007 قائلاً: “لا أحد يشعر بالأمان، لأن لا أحد يستطيع الاستناد على القانون الدولي، وهذه السياسة هي بطبيعة الحال المحفز لسباق التسلح”، وعملت جاهدة لكسرها، واستفادت من بعض المتغيرات الإقليمية والدولية بعد انتصار الثورة الإسلامية وسقوط نظام الشاه؛ شرطي أميركا في منطقة الشرق الأوسط والمدافع عن مصالحها.

كان للرئيس بوتين الدور الرئيس في عودة روسيا إلى قوتها ونديّتها في مواجهة التسلُّط الأميركي وكسر أحاديته، مستفيداً من نقاط الضعف التي أدت إلى تفككها، فعمل على صياغة سياسات اقتصادية ترتكز على عدم الانفلاش جغرافياً، وعلى التعاون مع الدول التي استقلت عنها من خلال الاتفاقيات الاقتصادية، ما أدى إلى إيجاد دورة اقتصادية أنعشت الاقتصاد الروسي، وقامت بالتوسع ومنافسة أميركا في أسواقها ومناطق نفوذها، فدخلت بمشاريع استثمارية في مصر بمليارات الدولارات، ومنها مشروع بناء المفاعل النووي للطاقة الكهربائية، عدا عن استثمارها في المجال النفطي، حتى أصبحت من أهم الدول النفطية، وهي تبيع أوروبا 80% تقريباً من احتياجاتها النفطية؛ من غاز وما شابه، وتوقيع الاتفاقيات العسكرية مع مصر وتركيا على صواريخ “S400” وغيرها من صفقات السلاح، ومع السعودية والعراق..

انزعجت أميركا من تعافي روسيا فحاولت تطويقها في جورجيا وأوكرانيا لكنها لم تنجح، بالرغم من إسقاط الرئيس الأوكراني وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فكانت ردة فعل روسيا أن ضمّت القرم إليها بعد الاستفتاء الشعبي فيها، فكانت ضربة قاسية لأميركا وأوروبا.

كذلك دخلت إلى الصراع السياسي في منطقة الشرق الأوسط من بابه الواسع وذلك عبر المشاركة العسكرية المباشرة في الحرب السورية إلى جانب النظام وحلفائه، وساهمت في القضاء على الإرهاب التكفيري في سورية خلال أشهر معدودة، ما خلا بعض المناطق، وكشفت القناع عن أميركا، وأثبتت بالوثائق والصور أنها كانت داعمة للإرهاب، وهي مَن صنعت “داعش”؛ حسب كلام كلينتون. كما ساهم الجيش الروسي، بالتعاون مع إيران والحلفاء، في هزيمة المشروع الأميركي – “الإسرائيلي” في المنطقة، والذي أراد تغيير معالم المنطقة من خلال السيطرة على سورية، وواجهت أميركا في مجلس الأمن، واستخدمت حق “الفيتو” ضدها في العديد من القرارات.

قامت أميركا بنشر الصواريخ في العديد من القارات في المناطق القريبة من روسيا كرسالة تهديد لها، لكن موسكو لم تكترث لهذا التهديد، بل اتخذت قرارها بالمواجهة عملت بشكل رئيس على تطوير أسلحتها الاستراتيجية البرية والبحرية والجوية، ما دفع بصحيفة “واشنطن بوست” إلى القول بعودة واشنطن وموسكو إلى سباق التسلُّح بعد مرور 30 عاماً على توقيع أميركا والاتحاد السوفيتي اتفاقية تدمير الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمسُّك موسكو بالمعاهدات الدولية الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية، وحذّر من أن انسحاب الولايات المتحدة منها قد يضرّ بالأمن والاستقرار الدوليَّين.

الظروف السياسية اليوم تختلف عن الظروف السابقة التي استفادت أميركا منها وجعلتها تتحكم بمقاليد الأمور في العالم، وهناك قوى إقليمية ودولية صاعدة تتقدمها الصين وروسيا وإيران استطاعت أن تواجة المشروع الأميركي (الشرق الأوسط الجديد) في المنطقة، وأن تنجح في إفشاله، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل بدأت أميركا بِعَدِّها التنازلي، وإن كان على المدى الطويل؟ فلننتظر ونرَ.