هكذا تتسلّل "إسرائيل" إلى وعينا كالنعاس!

بالعربي-كتب نادين كنعان: 

يُتحفنا كثيرون هذه الأيّام بخطابات حول «لا جدوى» مقاطعة «إسرائيل»، وسط دعوات لـ «الانتفاح على الآخر» و«التخلّي عن اللغة الخشبية». لكنّ الأكيد أنّ العدو نفسه يعترف بالضربات الموجعة التي يتلقاها حول العالم بسبب مختلف أشكال المقاطعة، لا سيّما الثقافية والفنية منها. هذا الأمر، يدفعه إلى التسلّل إلى عقول مناهضي الصهيونية بشتّى الطرق، في سبيل الترويج لصورته «الناصعة» الخالية من الإجرام واغتصاب الأرض والبطش والقمع، وبثّ بروباغندا لا تمّت إلى واقع الأراضي المحتلة بصلة، قائمة على تظهير «التعايش» بين «العرب واليهود»، فضلاً عن «التنوّع الثقافي والاجتماعي».

الأمثلة كثيرة طبعاً، لكن يمكن الاكتفاء الآن بتسليط الضوء على اثنين منها، الأوّل آتٍ من عالم البثّ على الإنترنت (ستريمينغ)، والثاني من مواقع التواصل الاجتماعي.

Somebody Feed Phil (فليطعم أحدكم فيل) هي سلسلة وثائقية بدأت شبكة «نتفليكس» الأميركية بثّ موسمها الأوّل في بداية العام الحالي، ومؤلّفة من ست حلقات. برفقة فيليب روزنتال (1960)، يذهب المشاهد في رحلة إلى ستّ مدن في قارات مختلفة، حيث يلتقي الكاتب والمنتج التلفزيوني الأميركي بـ «أصدقاء ويتذوّق الطعام المحلّي اللذيذ، محاولاً التعرّف إلى تاريخ الأطباق والأماكن، ومضفياً حسّ الفكاهة الذي يشتهر به». مع العلم بأنّه وعلى الرغم من أنّ «نتفليكس» تعتبر أنّ روزنتال «خفيف الظل»، لا بد من الإشارة إلى أنّ كثيرين لا يرون هذه «الملكة» لدى القائم على السيتكوم الشهير «الجميع يحبّ رايموند» (1996 ــ 2005)! من بانكوك في تايلاند إلى نيو أورلينز في الولايات المتحدة، تجارب ممتعة عدّة واكتشافات جديدة على صعيد الأكلات والتنوّع الثقافي والعادات والتقاليد والطبيعة. غير أنّ النقطة التي ارتأى القائمون على العمل إبرازها إلى الواجهة في الشرق الأوسط هي تل أبيب!

مساواة وقحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودعوات إلى «التسامح والانفتاح على آخر»

«إذا أردتم أن تعرفوا حقيقة إسرائيل، عليكم أن تأتوا إلى هنا»، يقول فيل عن «المدينة النابضة بالحياة» التي يعيد فيها لقاء أصدقائه القدامى أثناء تناول طبق «شكشوكة» في منزل عمره 250 عاماً تحوّل إلى مطعم، ويزور مكاناً آخر يقدّم «الحمّص اللذيذ» ضمن ديكور يحاكي شكل كنيس يهودي، من دون أن تفوته فرصة تذوّق الشوربة «الرهبية» التي تحمل توقيع «الأميرة» التي تعود أصولها إلى اليمن، فيما تحضر الشاورما الشامية أيضاً، إضافة إلى الباذنجان المقلي العراقي. إلا أنّ اللافت أنّه وعلى الرغم من حديث فيل روزنتال وضيوفه عن «تنوّع الثقافات في إسرائيل عموماً، وتل أبيب خصوصاً»، لم يستطع هؤلاء الإنكار أنّ هذه الأطباق «ليست يهودية أو إسرائيلية»، بل حملها معهم اليهود الذين استوطنوا الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذه الرحلة لم تنحصر في عاصمة الكيان الغاصب، بل انتقل فيل اليهودي الأصل إلى مدن أخرى من بينها عكا حيث التقى الشيف أوري جيريمياس، صاحب مطعم السمك «أوري بوري»، الذي شدّد على ضرورة «نبذ العنف والتركيز على القواسم المشتركة والحب بين اليهود والعرب لحلّ كلّ النزاعات». ولم ينس مقدّم برنامج I’ll Have What Phil’s Having (عام 2015 ــ PBS) زيارة الناصرة والجليل ويافا وغيرها، كما رأينا «التعايش اليهودي ــ العربي» عبر أشخاص يعملون سوياً ويتحدّثون عن «التاريخ المشترك والعِشرة» التي تجمعهم.

أما على السوشال ميديا، فهناك مضامين مشابهة تقدّم لروّادها، كما يحدث مثلاً في صفحة Nas Daily على فايسبوك، والتي يعرفها جيّداً عدد كبير من مستخدمي المنصات الافتراضية. غير أنّ خطورة المحتوى تكمن في أنّه يقدّم بقالب «كول» على يد شاب عربي.
يعرّف نصير ياسين (25 عاماً) عن نفسه بأنّه «فلسطيني ــ إسرائيلي»، اسمه Nas (أي ناس بالعربية)، يصوّر يومياً فيديوات قصيرة جداً (لا تزيد غالبيتها عن الدقيقة الواحدة) تتمحور حوله وحول الآخرين. أما عن رسمة الـ 33 في المئة الظاهرة على الـ «تي شيرت» التي يرتديها دائماً (صارت 34% الآن)، فيشير إلى أنّها تمثّل النسبة التي عاشها من حياته حتى الآن. انطلقت تجربة الشاب في شباط (فبراير) من عام 2016، إلا أنّه بات منذ فترة ليست بعيدة ذائع الصيت مع 4.7 مليون متابع على الموقع الأزرق.

تعود أصول ياسين إلى قرية عرّابة في الجليل الأسفل المحتل، وهو متخرّج من «جامعة هارفرد» الأميركية، ترك وظيفته في إحدى شركات التكنولوجيا البارزة في مدينة نيويورك ليلحق «شغفه» في نقل تجاربه من الناس والأماكن والعادات والتقاليد والثقافات خلال زياراته العالمية. بمجرّد الولوج إلى الصفحة، نصطدم بالـ «كوفر»، وهو عبارة عن فيديو بعنوان «العرب vs اليهود»، يلخّص على مدى أربع دقائق هوية هذه الصفحة وأهدافها الرئيسية.

نصير ياسين

سنشاهد «قصة حقيقة» حصلت مع نصير حين كان يصوّر فيديو في «منطقة يهودية أرثوذكسية في القدس (المحتلة). مشى بجانبي شخص وكان مفتوناً بعملي وبالكاميرا! في سياق الحديث، أخبرته بأنّني إسرائيلي ــ فلسطيني، فردّ بأنّني أبدو ذكياً». هنا، علّق نصير بالقول: «غالبية العرب كذلك... إنّهم أولاد عمّكم». «كلا. أعمل مع الكثير من العرب، لكنّهم ليسوا أذكياء، بل بربريّون»، يوضح الرجل، مضيفاً: «أنت تبدو فرنسياً ولا تشبه الفلسطينيين».

«هذا الرجل مقتنع بشدّة بأنّني أنتمي إلى عرق غبي وبربري (تسمية عنصرية يقصد بها همجي)... أنا عاجر عن الكلام»، يقول Nas ثم يخبرنا أنّه بعدما أمضى وقتاً طويلاً يحاول «باحترام» إقناعه بالعكس، بقي محدثّه متمسّكاً برأيه.

عندها، رأى ياسين أنّه لا بد أنّ يُخبر المشاهدين بأنّ هذه العنصرية لا تقتصر على «اليهود»، فهو شخصياً خاض نقاشات عدّة مع «عرب مقتنعين بأنّ كل اليهود سيّئون». ثم تابع الشاب سرد الحكاية، مشيراً إلى أنّه حين أخبر الرجل شقيقته البالغة من العمر 15 عاماً بأنّ نصير فلسطيني، سألت: «ولماذا يفخر بذلك؟». تعليق دقّ ناقوس الخطر عند ياسين لأنّ «في قلبها كمية كبيرة من الحقد على العرب وهي تقطن على بعد كيلومتر واحد فقط منهم». عجيب فعلاً! وحين تباغته الصبية بالسؤال «لماذا تقتلوننا؟»، يجيب: «أنا لا أقتل أحداً. هناك الملايين ممن لا يقتلون أحداً»، فيأتي الرد: «لو كان الأمر بيدي، لما سمحت لأي عربي بالدخول إلى هذه المنطقة... لا يوجد عربي أو فلسطيني غير إرهابي». وفيما «الصدمة» تغطي ملامح وجهه، يقول نصير ياسين إنّه «يمكن تفهّم الكراهية من شخص بالغ، لكن صدورها عن مراهقة يجرح أكثر، لا سيّما أنّ الأمر يحصل في القدس، المدينة التي يتجاور فيها المسلمون واليهود».

أمام هذا الواقع، أيقن الشاب «العصري والمنفتح والمحب للحياة بعيداً عن الصراعات» أنّ الأشخاص الذين يعرفهم «هؤلاء اليهود، هم نسبة الـ10 في المئة التي تظهر على التلفزيونات... فالشاشات لا تبيّن الغالبية التي لا ترغب في الحرب... أصوات الناس الذين يشبهوننا تبقى مخنوقة في معظم الأحيان... وبعد ما حصل مع هذا الشخص وشقيقته، أدركت أنّنا يجب أن نوصل آراءنا عبر الإعلام التقليدي والسوشال ميديا، لنثبت أنّه ليس كلّ العرب إرهابيين ولا كلّ اليهود أشرار».

يظهر هذا الهدف جلياً في الكثير من الشرائط المصوّرة القصيرة التي يعرضها الشاب على صفحته من دول عدّة، على رأسها ذلك الذي يروّج فيه لـ «إسرائيل» (10 د)، ناقلاً تفاصيل زيارته إلى الأراضي المحتلة التي استمرّت عشرة أيّام. من عرّابة إلى البحر الميّت، مروراً بالقدس المحتلة (مهد الديانات، حيث توتّرات حالياً بين العرب واليهود) وتل أبيب (البسيطة والمريحة والمناسبة للاستجمام) والناصرة (حيث عاش المسيح ويمكن للمسيحيين والمسلمين العيش بسلام)، و«الحدود السورية ــ الإسرائيلية» (التي لا يمكن اجتيازها لأنّ الحرب دائرة هناك). رسائل واضحة تهدف بطريقة سطحية إلى إبراز «جمال إسرائيل» التي بنيت على جثث الفلسطينيين، وتحرص على الفصل بين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين من جهة و«الشعب الطيب» من جهة ثانية.

(الاخبار)