لماذا عوقبت عهد، بينما لم يعاقب المستوطن الذي ركل الضابط في الخليل؟

بالعربي: لا تعتبر قضية عهد التميمي قضية غير عادية في طبيعتها، ولكن حجم الاهتمام والتركيز الذي تلقته، هو الامر غير العادي، والذي يبين الاختلالات والاختلافات العميقة في أنظمة الاحتلال: وأبرزها النظم القانونية المختلفة التي يجري تطبيقها على العرب واليهود، رغم انهما يعيشان على نفس الأرض. فالعرب يحاكمون في محاكم عسكرية، اما اليهود فتجري محاكمتهم في محاكم مدنية مهما كانت فعلتهم. وليس ادل على ذلك من حالة المستوطن الساكن في الخليل، يفعات ألكوبي، الذي قم بركل وشتم ضابط في شرطة الاحتلال، وقد صدر بحقه حكم مخفف وهو "ثلاثة أشهر في خدمة المجتمع". اما الطفلة الفلسطينية التي صفعت الجندي "الإسرائيلي"، فمن المرجح أنها ستقضي أشهرا طويلة داخل السجن.

كما شهد التاريخ القريب حادثة ازدراء مشابهة من طفل يهودي الى شرطي انجليزي، ومرت الحادثة دون محاسبة. فقد جاء في كتاب هاسامبا (وهو سلسلة من روايات مغامرات الأطفال خطت بيد الكاتب "الإسرائيلي" ايغال موسينسون) الحادثة التالية:

عندما كان العدو ما يزال هو المحتل البريطاني، قام الفتى اليهودي ميناشيه، وهو يهودي يمني الأصل، بسكب محلول الكلس الأبيض (أي الشيد) في كاس من الحليب كان ضابط الشرطة البريطاني طومسون يشربه، متناولان منه رشفة بين الحين والأخر. ورغم ان الكثيرين من الناس شاهدوا الفعلة الكريهة لليهودي اليمني ميناشيه، الا نه أفلت بفعلته، ولم تتم معاقبته. على الرغم من ان فعلته كان فيها كل الكثير من التحقير للضابط، عدا عن الخطر الصحي الذي كان يمكن ان تتسبب به فعلته للضابط.

ويضيف الكاتب: "لقد قرأت الكتاب عندما كنت طفلا، وأعجبت بشجاعة ميناشيه اليمني أيّما اعجاب. ومن المؤكد انني لم أكن الشخص الوحيد المعجب بفعلة ميناشيه، بل انني متأكد انها أفرحت كل طفل في "إسرائيل".

وقد قمت بقراءة الكتاب مرة أخرى بعد عدة سنوات، ووجدت انني فقد الكثير من التحمس والتقبل والتشجيع لفعلة اليهودي اليمني. فقد أدركت تمام الادراك أن الشجاعة في بعض الأحيان مسالة نسبية، وأن شجاعة أحد الجانبين لا بد ان تقاس على انها اذلال للجانب الاخر وبامتياز. والدليل على ذلك، انه لو تم تسويق كتاب هاسامبا في لندن، فأنني متأكد ان فعلة ميناشيه ستلقى استنكارا كبيرا من الأطفال البريطانيين بدلا من الاعجاب، وان أيا من المشترين لن يلتفت الى الكتاب بمجمله، على أساس انه دُمِغَ سلبا بفعلة اليهودي اليمني.

يقودنا الحديث السابق الى عهد التميمي، والانتباه والتعاطف الذي اثارته حالتها بما في ذلك في الشارع "الإسرائيلي" ربما. فالفتاة التي لم تتجاوز ال (17) عاما، أبدت جرأة وتجربة كبيرة في مقارعة الاحتلال، على الرغم من صغر سنها. فهي لم تتردد في الاشتباك مع جنود الاحتلال، وواظبت على استفزازهم، والصراخ عليهم، وضربهم بالحجارة، وركلهم بالأرجل، الى ان تمكنت من صفعهم، مع توثيق ذلك بالكاميرات. وهناك شيء اخر آخر يميزها عن الأطفال الفلسطينيين الآخرين، وهو أنها شقراء، وهو ما اكسب قصتها المزيد من الشهرة والتميز.

قدم المدعي العام العسكري لائحة اتهام ضد التميمي مؤخرا، ركزت اللائحة تعلى حادثة الصفع الشهيرة بتاريخ 15/12/2017، بالإضافة الى (5) تهم أخرى تم ادراجها في لائحة الاتهام. وفي العالم العربي ككل، وبالأخص في الشارع الفلسطيني، تلقت فعلة التميمي الكثير من الحماسة والتشجيع والاعجاب. كما قام اخرون بتأليف بعض الأغاني تمجيدا لجرأتها.

من الطبيعي ان يتم تفهم ذلك، فلو كنا فلسطينيين، من المؤكد اننا كنا سنتفاعل بنفس الطريقة مع فعلة التميمي، تماما كما فرحنا "لِكِلس" ميناشيه اليهودي اليمني في كأس حليب الضابط طومسون. لكننا لسنا فلسطينيين، ولا يجب ان تنال فعلة التميمي اعجابنا. بل ان ما يثير الشفقة، هو الحماس الذي ابداه بعض "الإسرائيليين" اليساريين لفعلة فتاة النبي صالح. فقد قارنها أحدهم مع "جون دارك"، قائد الثورة الفرنسية ضد الإنجليز خلال حرب المائة عام. في حين قارنها شخص آخر مع هانا ومع زينيس، وهما امرأتان ضحتا بحياتهما من اجل شعبهما.

ولا شك بان هذه المقارنة التي قاموا بها ليست إهانة لذكرى هانا ومع زينيس فحسب، بل انها إهانة للتاريخ. بل ان الكثيرين تساءلوا عن سبب عدم قيام جنود لواء جيفعاتي بإطلاق النار على الفتاة، وعلى ابنة عمها، وعلى أمها على الفور، قبل ان تزول اثار الكدمات عن وجوههم.

كان ينبغي أن تكون قضية التميمي قد اختتمت في غضون أيام، كي يتم التخلص من الضوء الإعلامي، وتبريد التضامن الشعبي معها. وهذا ربما سهل فكل شيء موثق وواضح. ولكن محامي الدفاع، غابي لازكي، لعب لعبته، فطلب أسبوعا للتحضير، ثم مدد أسبوعا اخر للاستعداد، وهذا من حقه.
لم تكن المحاكم العسكرية في الأراضي الفلسطينية نموذجا او مثالا يحتذى للعدالة. ففي الكثير من الأحيان، بل في اغلب الأحيان، نجد ان الأدلة ليست أدلة، والشهود ليسوا شهودا، والعقوبات ليست موحدة.

وقد كتبتُ ذات مرة، وبعد حضور العديد من المحاكمات العسكرية، أن العدالة العسكرية تشبه العدالة، مثلما يمكن ان تشبه الموسيقى العسكرية الموسيقى العادية. من الواضح ان عهد التميمي ليست حملا وديعا، لكن حالتها مثالا على حالة من التحدي الصعب جدا لنظام في حالة من الاضطراب والانفصام.

المصدر: وطن للأنباء