عروبة جمهورية علمانية !

بالعربي- كتبت-ثريا عاصي:

استوقفني الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية  اللبنانية جبران باسيل في الإجتماع  الذي انعقد في 09.12.2017 في القاهرة للبحث  في الإجراءات التي يتوجب بحسب المجتمعين باسم جامعة الدول العربية، إتخاذها بعد القرار الأميركي الذي يقضي بتظهير اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بشرعية إحتلال مدينة القدس بواسطة نقل السفارة الأميركية إليها .

ما يهمني من هذا كله هو خطاب الوزير اللبناني فقط . كوني أعتقد أن جامعة الدول العربية هي أداة  يستخدمها في فترة ما، الذين استحوزوا  على أوسع نفوذ في البلدان العربية . بتعبير آخر إن هذه الجامعة هي في الراهن أداة يستخدمها الحكام الخليجيون وفي مقدمهم السعوديون، وهؤلاء يمتلكون نفوذاً هو في جوهره انعكاس للنفوذ الأميركي "الإسرائيلي" .

أما عن ماهية "الدول العربية" فحدث، إذا أقل ما يقال في موضوعها أنها شبه مستعمرة، او أنها "تحت الرعاية". يحسن التذكير هنا أن الدول التي أرسلت ممثليها إلى إجتماع القاهرة كانت تعلم بالقرار الأميركي قبل إعلانه، فمن المعروف أن الغالبية منها تشارك في الحرب الأميركية بالوكالة، على بعض الدول، التي طردت من جامعة الدول العربية، تحت عنوان "ثورات الربيع العربي".

مجمل القول أن جامعة الدول العربية مرتهنة للنفوذ السعودي فلا الدول دولٌ ولا الجامعة جامعةٌ، أما القرارات التي تصدر عنها فالجميع يعرف أن الغاية منها أنكار الحقيقة والتبرؤ من السياسات القبيحة .

لأعود إلى خطاب السيد جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني، الذي اعترف بأني تمعنت فيه إلى درجة أوصلتني إلى تأويله،  بما هو مبادرة جريئة وخلاقة إلى طرح  أفكار ثاقبة حول مشروع عروبي حقيقي، هو في جوهره تجديد لفكرة القومية العربية التي غذت حركة التحرر من الدولة  العثمانية ولكن الصراع على الخلافة تارة وعلى العرش تارة أخرى  سمح للدول الإستعمارية آنذاك بأن تتلاعب بالإختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية  !

لقد تضمن خطاب الوزير باسيل نداء حقيقياً باسم العروبة، اكاد أقول هنا نداء أخيراً باسم العروبة، يمكننا إختزاله بالدعوة إلى العروبة بمعناها  الإتحاد كما تتحد "رزمة العِصِي"،  فتأبى تكسراً  أو حتى لوياً كما يقول الشاعر :
" تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا إفترقن تكسرت آحاداً" .

ليس شرطاً ضرورياً ولازماً أن يكون أصل هذه العصي من نوع معين من الشجر، فالأمر الرئيسي هو أن تجتمع وأن لا تتفرق في الشدة . المعنى الثاني الكامن في هذه الصورة  هو التعددية . والرأي عندي أنه المعنى الأساس الذي ترتكز عليه دعائم أي مجتمع  إنساني حديث، قابل للحياة، أي أنه يمتلك القدرة على أن يتجدد ويتلائم مع الظروف  المتغيرة والمتبدلة باستمرار .

فالتعددية بحسب روحية الخطاب الذي نحن بصدده، تنطوي ضمنياً على احترام حرية الناس في أن  يجتمعوا  ويتضامنوا وفي أن يتفرقوا  "لا إكراه في الدين" أما استخدام السيف فهو تصرف بدائي، صادم في هذا الزمان . بكلام آخر  أن التعددية تفترض وجوب  إعمال العقل، وليس الإعتماد على النسب والحسب، في اختيار العيش المشترك مع الآخر وفي التوصل معه إلى قواعد لا بد من الإلتزام بها لكي يكون  هذا العيش هانئأ ومنتجاً . التعددية هي الشرط الضروري  لإفساح المجال لدور العقل !  في التجانس خطر على العقل.

استنادا إليه علينا أن نفهم التعددية بما هي  تنوع أو  عدم تشابه شكلياً، كون قواعد العيش المشترك متروكة للعقل على أساس المصلحة  العامة، ينجم عنه تضاؤل الحاجة إلى الرابطة العصبية كوسيلة لتشكيل رزمة من العصي مأخوذة من جنس معين من الشجر حصرياً .

لذا  فإن الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية اللبناني هو  تعبير عن الحاجة إلى وطن مستقل وسيد بشكل عام، وعن حاجة "الأقليات" إلى هذا الوطن على وجه الخصوص، خوفاً من طغيان "الأكثرية  التلقائية" التي تلغي دور الفرد والعقل، وتجعل الكلام عن الديمقراطية والحرية والوطن كلاماً لا معنى له .

وبالعودة إلى موضوع مدينة القدس، كان وزير خارجية لبنان واضحاً وصريحاً عندما قال أمام  المتعاونين مع الولايات المتحدة الأميركية، بل المرتَهنين لها، أن في هذه المدينة أمّناً وأشقاءنا، أي الرابطة التي ترمز إلى العروبة وتبرر الإنتماء لها . لولا مدينة القدس لا يقف المسيحي اللبناني المشرقي العربي ليقول أمام الخليجيين أن في القدس، كرامتنا وأن فيها يتقرر مصيرنا وتاريخنا القادم . الثورة أم الموت إختاروا .  من المعيب أن نبقي على علاقاتنا الديبلوماسية والإقتصادية مع الذين يحاولون محو وجودنا في مدينة القدس ..

الحروب التي تتلاحق على هذه الحكومة هذه البلاد العربية أو تلك هي في الحقيقة حروب ضد هذه البلاد بعد فصلها عن رزمة العصي .  

هل تذكرون فصل العراق ثم فصلت ليبيا، ثم سورية، ماذا فعلتم لليمن .

خلاصة القول أن في خطاب الوزير اللبناني  نواة مشروع عروبي مختلف عن العروبة الملكية الشريفية المتلفعة بالملاءة  الدينية، وباللون الواحد، فأهمية المشروع  العروبي اللبناني أن فيه دعوة إلى عروبة جمهورية، علمانية متعددة بألوان قوس قزح . وهذا في حد ذاته متغير بارز في الحياة السياسية اللبنانية لجهة وضع الأمور في نصابها الصحيح، ففي لبنان تيارات أحدهما مع المحافظة على النظام الطائفي والثاني يعمل على بناء وطن يتساوى في المواطنون دون تمييز بينهم على أساس العقيدة والرأي والعرق .