الانتفاضة وجدعون ليفي

بالعربي- كتب يوسف ضمرة: 

جدعون ليفي واحد من أكثر الصحافيين "الإسرائليين" شهرة والتباسا معا. دعي قبل أشهر لإلقاء محاضرة في واشنطن، حول دور اللوبي اليهودي وتأثيره في العلاقة الأمريكية "الإسرائيلية".

كان ليفي مفاجئا وصادما في محاضرته، حيث قال ما لم يجرؤ صهيوني آخر على قوله، إذا ما استثنينا إيلان بابيه، الذي تخلى عن الجنسية "الإسرائيلية"، وغادر فلسطين نهائيا، بناء على قناعة تامة ومواقف واضحة ضد الدولة العبرية الفاشية.

يختزل ليفي مكونات العقل "الإسرائيلي" في ثلاث نقاط: أولها، أن معظم اليهود ـ إن لم يكنوا كلهم ـ مقتنعون بمقولة شعب الله المختار. ومن يؤمن بهذه المقولة، فهي بالضرورة سوف تنسحب على سلوكه ورؤيته للآخَر. وعليه فإن ابن شعب الله المختار، مباح له أن يعمل ما يشاء من دون مساءلة من أحد، طالما كان الله الأعلى هو صاحب القرار والرأي. ومثل هذا التصور، يُسقط حقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بالآخرين، ونخص هنا الفلسطينيين بالطبع. أي أن اليهودي في الدولة العبرية، لا ينبغي له أن يُساءل من قبل أحد، عندما يرتكب أي فعل غير إنساني تجاه الفلسطيني. وبالتالي فإن ممارسات القتل وهدم البيوت والسجن الانفرادي والتعذيب المتفرد عبر التاريخ، تصبح كلها أفعالا مباحة، لأن إلها اسمه”يهوه” قرر أن هؤلاء الخمسة ملايين من اليهود في فلسطين، هم أبناؤه بطريقة أو بأخرى. ولهذا فإن إقبال اليهود تاريخيا على قتل عيسى وزكريا ويحيى لم يكن عملا مشينا، طالما كان يحظى بتغطية إلهية!

ثاني هذه النقاط في المكون العقلي اليهودي، تكمن في مفارقة عجيبة من طرف اليهود؛ فلأول مرة في التاريخ البشري تصر جماعة على احتلال أرض وشعب آخر، وتقدم نفسها طوال الوقت بوصفها الضحية. أي إن فكرة الدفاع عن النفس تصبح قانونا يهوديا، إن لم يكن قانونا إلهيا، بغض الطرف إن كان الفلسطيني يستخدم سكينا أم حجرا أم كلمة.

النقطة الثالثة تتمثل في عدم قدرة العقل اليهودي على رؤية الفلسطينيين كبشر، بسبب رفض الفلسطيني لقانون إلهي يهودي يجعل من اليهود جماعة فوق الجميع. وعليه فإن هذا الرفض الفلسطيني يستحق أشد العذاب والتكيل.

يروي جدعون ليفي حادثتين: الأولى حين قابل إيهود باراك وهو مرشح لانتخابات رئاسة الحكومة. يومها سأل ليفي باراك السؤال التالي: ماذا كنت ستفعل لو خُلقت فلسطينيا وولدت هنا؟ فرد باراك من دون تلكؤ: كنت سأنضم إلى منظمة” إرهابية”. يومها ـ كما يقول ليفي ـ ضج الإعلام الصهيوني سخطا على جدعون ليفي، فقط لمجرد طرحه سؤالا كهذا، إذ لا تجوز المقارنة بين اليهودي والفلسطيني بأي حال من الأحوال.

الحادثة الثانية جرت في نهاية الثمانينات أيام الانتفاضة الأولى. يقول ليفي إنه كان خارجا من جنين المحاصرة والمعزولة عن العالم. وحين وصل إلى الحاجز الصهيوني كانت أمامه سيارة إسعاف فلسطينية خارجة من جنين، ومتوقفة أمام الحاجز. ويضيف إنه انتظر 40 دقيقة والجنود يلعبون كرة الطاولة”بنغ ـ بونغ ـ في خيمة قريبة. روى إنه ترجل من سيارته واتجه صوب الجنود وسألهم سؤالا واحدا: تصور لو أن أباك كان ينزف داخل سيارة الإسعاف؟ وهنا قامت قيامة الجنود ولم تقعد، لأن ليفي ساوى في سؤاله بين “ابن الله” وبين الفلسطيني!

يشير ليفي في هذه المحاضرة إلى مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية عن كل ما جرى ويجري. إنه يشبّه الاحتلال الصهيوني بمدمن على المخدرات، وليس أمام من يهتم به سوى وسيلتين: إما أن يعطيه المزيد من الأموال فيذهب ويشتري المزيد من المخدرات، ويصبح المانح حينها الصديق الصدوق والوفي، أو أن ترسل المدمن إلى مصحة لمعالجته، وحينها سيعتبر المدمن ذلك الفعل تقصيرا وإهانة بحقه من قبل شخص ليس من شعب الله المختار.

وعليه يطرح ليفي السؤال الأكثر الأهمية في المحاضرة كلها: لماذا يتغير "الإسرائيلي"؟ ما هو الدافع والحافز للتغيير؟ ويخلص على نتيجة نعرفها نحن العرب جيدا، وهي أن هذا الكيان المصنّع لا يتغير، ولا يقبل حتى بفكرة التعايش من أساسها، لأنه يعتبر نفسه أكبر وأرقى من الطرف الآخر، فلماذا يتعايش معه؟

قام ليفي بتفكيك البنية العقلية للصهيوني المحتل والمغتصِب. قام بتفكيك الثقافة المشوهة التي يرى من خلالها العالم، وفي مقدمته فلسطين والفلسطينيين. إنها ثقافة الكذب والوهم والميتافيزيق. يستغرب ليفي كيف يقول نتنياهو إن على يهود العالم أن يذهبوا جميعا للعيش في “دولة إسرائيل” الأكثر أمنا لهم، ويصرح في اليوم التالي أن الكيان معدد بإبادة نووية إيرانية. يستغرب كيف أن أحدا لم ير التناقض في القول، لأن حكام الكيان ـ كما اعتادت التوراة القول ـ هم ملوك بني "إسرائيل"، الذين يلتقون مع الأنبياء والرسل في نقطة تقاطع ما.

هذه هي الانتفاضة الثالثة الفلسطينية، وها هم الصهاينة يتعاملون معها بالأسلوب نفسه، وبالرؤية نفسها؛ فالإله”يهوة” هو رب الجنود، وهم شعب الله المختار، ولا يحق لأحد في هذا العالم أن يعارضهم.

وفي النهاية يتساءل ليفي: كم من الزمن سوف يمر و"الإسرائيلي" يعيش على سيفه؟ أي “شعب” في العالم؟ أي إمبراطورية تعيش العمر كله على سيوفها؟

هذه التساؤلات تقودنا إلى جدوى حركات الرفض والمقاومة، ولو بالحجر. فطالما كان الحجر سببا في الحياة على السيف للغاصب، فإن هذا الحجر يعادل السيف. بل هو المؤهل الوحيد لكسر هذا السيف!