"بقلاوة" لقيادة حماس .. قصة ملاحقة واغتيال الشهيد عادل عوض الله

بالعربي: أثار وجود امرأة محجبة تغطي رأسها بمنديل ثقيل شكوك راعي الأغنام رامي كورليجة ابن الـ16 عامًا، الذي كان يرعى أغنامه في جبال الضفة الغربية.

كان من الغريب بالنسبة له أن تبطئ السيارة قرب بيت عائلة مسودة الصيفي المعروفة بتجارة الحلويات في الخليل، وهو ما دفعه إلى تعقبها إلى أن تجاوزت البيت المحاط بكروم العنب.

لم يكن يتخيل أنَّ مَن في داخلها شخص متنكِّر، وليس أيّ شخص، بل عميل كبير، وقديم للشاباك "الإسرائيلي"، وأنَّ البيت الكبير المحاط بأسوار عالية وأسلاك شائكة يعود لأكرم مسودة تاجر الحلويات المعروف وأحد أثرياء الخليل.

معلومات وصلت للشاباك أفادت أنَّ الشقيقين عادل وعماد عوض الله يختبئان في المنزل، وهما يُعدّان أهم مطلوبين "لإسرائيل" في تلك الفترة، وأنّهما يخططان للهرب إلى مصر.

الشقيق الأكبر عادل شغل موقع رئيس الجناح العسكري لحماس في الضفة في العام 1998، وكان محرك العمليات الأول والمركزي في تلك الأيام، بينما شقيقه عماد فقد كان ناشطًا عسكريًّا في حماس، وعدَّهما الشاباك أنّهما شكلا معًا هيئة أركان حماس في الضفة، وأنَّهما المسؤولان عن عمليات نوعية استشهادية في القدس وتل أبيب أدت إلى مقتل العشرات.

عادل أحمد إسماعيل عوض الله، ولد في مدينة البيرة قبل شهرين من اندلاع حرب الأيام الستة، تلقى تعليمه في المدرسة الهاشمية في البيرة، وأكمل دراسته في جامعة القدس تخصص رياضيات، بالإضافة إلى الأدب العربي في جامعة بيت لحم، لكنه لم يكمل بسبب إغلاق الجامعة في الانتفاضة الأولى.

بعد إغلاق الجامعة وجّه عادل جهده وطاقته للمقاومة، حيث التحق بكتائب عز الدين القسام التي كانت في طور التأسيس، واندمج في جهازها العسكري.

عادل يعدّ شخصية قيادية، ويتحلى بخصال قيادية، سُجن في عام 1989 في سجن مجدو، وتحوّل إلى أحد الأسرى المؤثرين في السجن، وهو لا يزال في عمر 22، حيث تولّى المسؤولية عن جهاز حماس الأمني في السجن.

في العام ذاته، تزوَّج وانجب من زواجه أربعة أبناء، وهذا لم يمنعه من مواصلة المقاومة ضد الاحتلال، حيث قالت زوجته بعد استشهاده: إنه "أقسم أن يحارب "إسرائيل" حتى النصر، أو أن ينال الشهادة".

في عام 1992، بعد تحرره من السجن، تمَّ اختياره ليتولى المسؤولية العسكرية عن الحركة في الضفة، وهي المهمة التي تطلبت منه أن يموِّل عمليات المقاومة، وتلقي مبالغ مالية ضخمة جدًّا، اشترى فيها السلاح.

لم يكتفِ عادل بتجنيد الأموال وتمويل العمليات وشراء السلاح، بل قام بنفسه بتنفيذ العمليات وقتل "إسرائيليين"، فاتُّهم بقتل عالم الآثار الأمريكي البرت جلوك في مدينة بيرزيت.

اعتقل عادل مرة أخرى، ولكنه صمد في التحقيق، ولم يدلِ بأيِّ اعتراف للمحققين الذين أدخلوه للسجن لسنتين، رغم عدم وجود ملف، وعندما تحرر في 1994 أُفرج عنه لهدف واحد، وهو مراقبته والوصول إلى الشبكات والخلايا التي يعمل معها.

بعد اغتيال يحيى عياش عينته حركة حماس قائدًا لجناحها العسكري في الضفة، وبرز كخليفة لعياش بسرعة كبيرة، وتحوَّل إلى أسطورة في صفوف الفلسطينيين؛ لأنه نجح وبمهارة عالية في ترميم وإعادة إحياء الجناح العسكري، وإقامة شبكة متشعبة من الخلايا النشطة، وتحوَّل فعليًّا إلى رئيس أركان الضفة الغربية.

ضمَّ عادل محيي الدين الشريف للعمل معه، وعمل الاثنان معًا على إقامة مشغل متفجرات وتدريب خبراء؛ من أجل تنفيذ عمليات استشهادية في القدس، وهنا انضم إليه شقيقه عماد الذي أصبح معاونه الأساسي وساعده الأيمن.

في عام 1997، انتقل ثقل نشاط عادل وعماد إلى الخليل والقدس، حيث نظَّم خلايا جديدة تركز نشاطها في التخطيط لخطف جنود وسياسيين "إسرائيليين" كبار، مثل رافول الذي شغل منصب رئيس الأركان السابق في جيش الاحتلال ووزير الزراعة، وايهود اولمرت الذي شغل منصب رئيس بلدية الاحتلال في القدس، وعمرام متسنع رئيس بلدية حيفا، والجنرال في الاحتياط، وهي مخططات لم تخرج إلى حيّز التنفيذ.

الشقيقان عوض الله فحصا إمكانية تنفيذ عمليات بأسلحة كيماوية، واستخدام مواد سامة في العبوات التي جهزاها وتسميم مصادر المياه.

خلال عام 1997، نجح الشقيقان في تنفيذ ثلاث عمليات استشهادية قاسية، الأولى في شهر آذار عشية عيد المساخر، حيث فجَّر استشهادي نفسه في مقهى ابربو في تل أبيب، وتسبب في مقتل ثلاث سيدات وإصابة  48 شخصًا، والثاني تفجير استشهاديين تنكرا في زي متدينين في سوق محنية يهودا، حيث قاما بتفجير العبوات بالتتالي، وتسببا في موت 16 "إسرائيليًّا"، وإصابة 178، والأخيرة هي أيضًا كانت عبارة عن عملية مزدوجة في القدس، قُتل فيها ستة أشخاص، وأصيب 165.

في أعقاب العمليات الناجحة والمثيرة للانطباع، أدرك الشاباك أنَّ البنية التحية للقسام في الضفة عادت إلى العمل مثل السابق، لتنطلق عملية مطاردة الشقيقين كأولوية أولى.

نجح الشقيقان في التستر والاختفاء عن عيون الشاباك بمساعدة شبكة مساعدين عملوا معهم في إطار جهاز أمني شكلاه في الخليل، ولكن السلطة نجحت أن تسجل لصالحها نقطة اعتقال الشقيق الأصغر عماد.

في مطلع عام 1998، تفجّرت عبوة في سيارة محيي الدين الشريف مساعد عادل عوض الله، وهو من حملة الهوية الزرقاء من القدس؛ ما مكنه من التنقل بحرية داخل "إسرائيل".

الشريف استغل هويته هو والخلايا التي عملت معه، ونفَّذ عمليات ضد "إسرائيل"، واستطاع أن يضلل اجهزة الاحتلال الأمنية، حيث أعلنت حماس أنه استشهد أثناء عمله في المقاومة في حادث عمل، ولكن السلطة اعتقلت عماد عوض الله بتهمة إطلاق النار وقتل محيي الدين الشريف، وإحضار جثمانه وتفجيره داخل السيارة.

السلطة اعتقلت عماد من منزله، حيث قال لصحيفة حماس: إنه لم يشأ أن يؤذيهم، أو أن يشتبك معهم بعد أن حاصروا منزله من كلِّ الجهات.

في سجون السلطة تعرّض عماد للتعذيب بشكل عنيف من أجل انتزاع اعتراف منه حول مكان وجود شقيقه عادل "لقد وضعوا كيسًا أسود على رأسي وانهال عليَّ عدد كبير من أفراد الأمن بالعصي، لكني لم اعترف"، وفق ما رواه لحماس، بعد أن نجح في الهرب من سجن أريحا الذي أمضى فيه أربعة شهور والعودة إلى شقيقه.

في هذه الأثناء، لم يتوقف الشاباك للحظة عن البحث عن عادل ومحاولة إيجاد طريقة مبتكرة للإيقاع به.

المطاردة لم تأتِ بأيّ نتيجة، والعمليات استمرت إلى أن خطرت لأحد الضباط فكرة استندت إلى الافتراض أنَّ الشقيقين بقيا على اتصال فيما بينهما، ومع قيادة الحركة في دمشق.

بدأ الشاباك في مراقبة البيت عن قرب وعن بعد بوسائل إلكترونية وتكنولوجية مبتكرة وذكية من الدرجة الأولى على الإطلاق، حيث كشفت هذه الوسائل أنَّ الشقيقين يقيمان في البيت.

المعلومة الذهبية التي امتلكها الشاباك حول مكان وجود الشقيقين نقلت مباشرة إلى رئيس الشاباك عامي أيلون، الذي أسرع بدوره إلى مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإبلاغه، وأخْذ إذن رسمي بإلقاء القبض عليهما.

نتنياهو خشي من اغتيالهما؛ لأن ذاكرته لا تزال شاهدة على عمليات الانتقام التي نفذتها حماس في أعقاب اغتيال يحيى عياش، والثمن الباهض الذي دفعته "إسرائيل"، لكن أيلون كان مصممًا، وقال لنتنياهو: إنه لا يتخيّل أنَّ فرصة كهذه ستتكرر، وإنّ على "إسرائيل" ألا تضيعها.

الهدف كان اعتقالهما، قال أيلون فيما بعد، وأضاف أنَّ الشاباك عدّهما كنز معلومات استخباراتية، وهذا أثار جدلاً كبيرًا مع يوفال ديسكين الذي اعتقد أنه يجب قتلهما؛ لأن وجود عادل في السجن سيعني أنه سيواصل العمل من خلف القضبان، وربما يبادر إلى التخطيط لعمليات خطف من أجل الخروج من السجن.

أيلون قال: إنه عارض فكرة التصفية لأسباب أخلاقية واستخباراتية؛ لما يملكانه من معلومات.

النقاش الذي نشب، ولم يحسم في جهاز الأمن انتقل إلى المستوى السياسي، حيث وافق رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الجيش ايتسيك مردخاي على عدم تصفيتهما، وإلقاء القبض عليهما، ليس للأسباب التي ذكرتها، بل لخشيتهما من ردة الفعل على اغتيالهما.

مقاتلو وحدة اليمام التي تعدّ الوحدة المختارة المتخصصة في مكافحة الإرهاب، والتي تتبع للشرطة يرأسها ديفيد بن شيمول الذي حصل على أوسمة وسجل إنجازات كبيرة، أجرت التدريبات في كيفية اقتحام المنزل لعشرات المرات بالاعتماد على خارطة المنزل والصور الجوية للمبنى من الخارج.

هذه كانت المرة الأولى في تاريخ وحدة اليمام التي تنفّذ فيها مهمة من هذا النوع؛ لأنّ العادة جرت أن يتم اللجوء إلى وحدة السيرت متكال لتنفيذ عمليات بهذه الدرجة من الخطورة.

استمرت المراقبة والجولات حول المنزل إلى أن جاء يوم التنفيذ، الذي بدأ مع لحظات الغروب الأولى.

موكب من السيارات وصل إلى القرية الوادعة في خربة الطيبة، وفيها جنود من وحدة اليمام يرتدون الزي المدني.

نزل الجنود من السيارات واقتحموا كرم العنب، وحاصروا المنزل من الاتجاهات كافة، وفي حوزتهم كلب هجومي مدرّب أُعد للهجوم واقتحام المنزل.

انتظر الجنود بتوتر شديد أمر الانطلاق وبدء التنفيذ، بينما عملية المراقبة التكنولوجية المتطورة متواصلة لرصد الحركة.

من أجل ضمان اعتقالهما أحياء أجريت عملية تضليل لحرف أنظارهما؛ لذا أحضرت بقلاوة مشبّعة بالعسل؛ لأنّ المخططين اعتقدوا أنَّ الشقيقين وبعد تناولها سيخلدان إلى الراحة، وعندها يمكن اقتحام المنزل واعتقالهما.

الوسطاء حملوا طبق البقلاوة مع وجبة العشاء، ولكن تبيَّن أنَّ عادل امتنع عن أكلها؛ لأنه -كما يبدو- قرر أن يبتعد عن الحلويات، وذهب للنوم والكلاشنكوف على صدره.

الساعة العاشرة من يوم 10 سبتمبر 1998، وصلت حرب الأدمغة والمطاردة إلى ذروتها بين الشقيقين اللذين عُدّا من أخطر المطلوبين الذين عملوا ضد "إسرائيل".

أعطي الأمر للقوة أن تتحرك؛ ليقتحم خلال لحظات جنود اليمام البيت والكلب يسبقهم.

أفاق عادل عوض الله على صوت نباح الكلب، ووقف على رجليه وشقيقه إلى جانبه، والكلاشنكوف في يده، حيث بدأ بإطلاق النار باتجاه القوة المهاجمة واستطاع أن يصيب الكلب.

جنود اليام شعروا أنَّه لا خيار أمامهم سوى تصفيتهم، وهذا ما فعلوه من الصلية الأولى للرصاص؛ ليخرجاهما خلال دقائق، وقد فارقا الحياة، ويُدفنا في مقبرة الأرقام في غور الأردن.

في صبيحة اليوم التالي، حضر الراعي الشاب إلى أجهزة أمن السلطة ليخبرهم عن المرأة المحجبة التي رآها أمام المنزل، والتي كانت تستقلّ سيارة غريبة.

بعد إخلاء جثامين الشقيقين بدأ الشاباك في عملية بحث عن وثائق، حيث وجدوا أسلحة وذخيرة وقنابل ومسدسات.

في إحدى الغرف المخفية عثر الشاباك على اكتشاف مثير أصابته بالدهشة، حيث وصلتهم معلومات أثناء المراقبة أنَّ عادل أحضر معه إلى المنزل برميلين كبيرين دون أن يعرف أحد سبب وجودهما، وماذا في داخلهما، واعتقدوا أنّها جزء من مقتنياته ولاستخدامه الشخصي، ولم يدرك أحد أنهما يحتويان على أرشيف حركة حماس.

في البرميلين وُجدت أسرار التنظيم كاملة وآلاف الوثائق والأسماء والنشطاء وأماكن الاختباء وإخفاء الأسلحة، بالإضافة إلى وثائق توثّق العمليات التي نفذت، والأخرى التي خطط لها، وهو ما عدّ كنزًا استخباراتيًّا كبيرًا ومهمًّا، لا يقدَّر بثمن، ولم يحلم به جهاز مخابرات في العالم.

تبيَّن أنَّ الأخوين حافظا على سرية عالية، وامتنعا عن استخدام الهواتف، أو أي جهاز إلكتروني آخر، والاتصال تمّ من خلال الرسائل، وكذلك الأمر مع النشطاء الآخرين تحت إمرتهم.

خبراء الشاباك وجدوا أمامهم أرشيفًا ضخمًا، لكنه معقَّد وبحاجة إلى تحليل بسرعة؛ لأنَّ الرسائل كُتبت بلغة مشفرة، وباستخدام الألقاب، وليس الأسماء الحقيقية، بحيث لا يعرف سرَّها سوى الشقيقين.

الشاباك تحرَّك بسرعة خشية أن تكون هناك عمليات، ومن أجل إلقاء القبض على المنفذين الذين قاموا بعمليات، ولم يُكشفوا حتى الآن.

بعد تنفيذ عملية التصفية، أبلغ أيلون رئيس الوزراء ووزير الجيش وبدل التهاني على النجاح تلقى توبيخًا ووابلًا من الأسئلة حول سبب اغتيالهم، ومن أعطى الأمر ومن ترأس الوحدة التي نفّذت الاقتحام، وهل عملت الوحدة بخلاف الأوامر أو تجاوزتها.

لقد خشي نتنياهو من التصفية، ومن عمليات الانتقام التي قد تجرّها خلفها خصوصًا أنَّ دينس روس المبعوث الأمريكي كان في المنطقة لتحريك المفاوضات بين السلطة و"إسرائيل".

غضب نتنياهو وخشي من العمليات التي قد تحدث عندما يعلن أمر التصفية في الإعلام، وطلب أن يعلن أنهما قتلا في حادث عمل أثناء إعداد عبوة، إلا أنّ أيلون رفض؛ لأنّ الوحدة كشفت للناس، وسمع إطلاق النار، وبدل ذلك اقترح عليه أيلون أن يذهب وأن يقابل عرفات، وإخباره بما حدث، وأن يطلب منه أن يبذل جهده لتهدئة الشارع، ومنع حماس من تنفيذ عمليات انتقامية.

جثمانا الشقيقين أعيدا إلى عائلتهما في عام 2014، بعد قرار من المحكمة العليا، وعدَّ هذا يوم انتصار فلسطيني.

(الحدث)