تاريخ الخمر عند العرب.. الشغف الجاهلي والاحتكار الإسلامي

بالعربي: غالبية الحضارات وشعوب الأرض عرفت الخَمر، السائل متعدد الأنواع والصفات، الذي حاربه وحرّمه البعض في حين تقبله البعض الآخر، ورفعوه إلى مصاف الآلهة. وهذه حال العرب، إذ عرفوه قبل الإسلام، بأنواع مختلفة، وصنعوه من العنب والتمر (نبيذ التمر يسمّى الكُسيس) والشعير والزبيب والذرة، وكان امتلاكه مفاخرة وجاهاً، وشربه دليلاً على الغنى وعلو المكانة.

كما أن العرب استوردوا الخمر من خارج الجزيرة، وهذا ما يتضح من معلقة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في قوله :"ألا هبّي بصحنك فاصبحينا/ ولا تبقي خمور الأندرينا". وأندرين هي مدينة في الشمال السوري عرفت بكرومها وطيب خمرها، ما جعلها مصدراً لشبه جزيرة العرب، كما عرفوا الخمر من بصرى الشام من (بيت رأس) إحدى قرى أربد في الأردن، وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان.

أصلُها

إلا أن تاريخ الخمر وصناعتها في الجاهليّة يعود إلى بعض الأساطير والحكايات، التي كانت تتداول بين العرب، فذُكر في "حلبة الكميت" لشمس الدين بن محمد المتوفي عام 859هـ في الباب الثاني أن "أول من عصرها أبليس لقابيل وأولاده"، كما ذكر الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى": حُكي أن آدم لما غرس الكرمة، جاء إبليس فذبح عليها طاووساً، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها، ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاووس فإذا جاءت مبادي السُكر لعب وصفق ورقص، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير، ويطلب النوم وتنحل عراقوته".

انتشارها في الجاهليّة

كان انتشار الخمر في الجاهلية لا يثير الكثير من التحريمات، إذ عُرفت الخمّارات وجلسات الشرب. إلا أن الروايات الإسلامية تستثني بعض الشخصيات ذات المكانة، بوصفهم امتنعوا عن الخمر حتى قبل الإسلام، ومنهم "عبد المطلب بن هاشم، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس المقتول ببدر، وعثمان بن عفان، وورقة بن نوفل، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان". ويقال إن أول من حرم الخمر في الجاهلية هو الوليد بن المغيرة والد الصحابي والفارس خالد بن الوليد.

وعلى النقيض، عَرف الشعراء في الجاهلية الخمر وافتتحوا به قصائدهم، لكن لم يكن له حضور مستقل كغرض شعري، على غرار المدح والهجاء، إلا أنه بقي محطّاً للوصف، فالشاعر الجاهلي المنخل اليشكري وغيره تغنوا بها، كما حضرت في معلقة عنترة بن شداد، إذ يرى نفسه حتى في شرب الخمرة شجاعاً مقداماً فيقول:

ولقد شربت من المُدَامة بعدمـا... ركد الهواجر بالمشوف المُعْلَـمِ

بزجاجـة صفراء ذات أسـرّة... قُرِنت بأزهر في الشَمال مُقـدم

فإِذا شـربت فإنني مستهلـك... مالـي وعرضي وافر لم يُكلَـمِ

وإِذا صحوت فما أقصر عن ندى... وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمـي

أما من اشتهر بينهم بشرب الخمر وجعله محور حياته وذاع صيته لذلك، هو الشاعر الأعشى الأكبر، الذي لم يدخل الإسلام لأنه حرّم الخمر، وبقي على جاهليته. وهو يمثّل الشاعر معاقر الخمرة في العصر الجاهلي، والصيت الذي ذاع حوله مرتبطٌ بمعلقته التي تغنى في مقاطع منها بالخمر كقوله:

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني... شاوٍ مشلٌ شلولٌ شلشلٌ شول

في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا... أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل

نازعتهم قضب الريحان متكئأً... وقهوةً مزةً راووقها خضل

لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا

يسعى بها ذو زجاجاتٍ له نطفٌ... مقلصٌ أسفل السربال معتمل

ومستجيبٌ تخال الصنج يسمعه... إذا ترجع فيه القينة الفضل

والساحبات ذيول الخز آونةً... والرافلات على أعجازها العجل

من كل ذلك يومٌ قد لهوت به... وفي التجارب طول اللهو والغزل

الانقلاب الإسلامي واحتكار اللّذة

ظهرت الدعوة المحمّدية، وانتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة، ما شكل انقلاباً اجتماعياً وسياسياً، وظهر التحريم وفق النص، الذي تدرج ثم انتهى بتحريم الخمر تحريماً قطعياً. بالرغم من بقاء عادة شرب الخمر لدى البعض، إلا أن الكثير من الشواهد والقصص تتناقض حول من كانوا يشربون الخمر، إضافة إلى مدى دقة تطبيق الحد أو التعزير عليهم، حد شارب الخمر هو الجلد، لكن هناك اختلافاً بعدد الجلدات، بوصف شرب الخمر من الكبائر.

إلى جانب ذلك قدم الإسلام مفهوم الحرمان من "الخمر المقدس" بوصفه عقاباً لشارب الخمر في الدنيا، على حد تعبير النبي محمد: "ومن شرب الخمر في الدنيا، فمات وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة". إلا أن الإسلام قدّم رؤية مختلفة، إذ لم ينفِ اللذة التي يحويها الخمر، بل حوّلها إلى متعة إلهية، يحصل عليها أهل الجنة حين يدخلونها، لتبقى المتعة حصراً بالعالم الآخر. إذ يقول النص القرآني "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم".

الخمر الإلهي

فخمر الجنة لا يشبه خمر الدنيا، هو لا يُسكر، أي لا يذهب العقل، كما ذُكر في القرآن الكريم أيضاً "يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربينَ، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفونَ"، كذلك "يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيمٌ". هذه الصفات التي يذكرها النص القرآني، ترتبط بمعنى كلمة الخمر بوصفها تحجب العقل كالخِمار، فالجنة خمرها أبيض ولا يسكر شاربها، ولا تؤدي إلى آلام مختلفة في الجسد، كذلك لا يدخل شاربها في متاهات اللغو والأحاديث الناتجة عن السكر.

على أن منطق الخمر الإلهي قائم على لذة صافية، لا تداخلها "التبعات" أو النتائج الدنيويّة المرتبطة بالخصائص البشريّة من جهة، والخصائص الطبيعية للخمر من جهة أخرى، لنقف أمام جوهر جديد للخمر، فهي لا تشابه ما نشربه الآن، ولا ما كانوا يشربونه. هذا الانقلاب في الصفات الجوهرية الطبيعية للخمر يفترضه النص القرآني، من دون أن يكون مرجعية لهذه الصفات الجديدة سوى المقدس. فخمر الدنيا يشابه خمر الآخرة بالاسم لا بالصفات، وما قدمه النص القرآني، كان نقلة على صعيد اللذة التي يقدمها الخمر، إذ تحولت إلى "خمرة إلهية" فائقة اللذة من دون سلبيات متعلقة بها.