الآستانة العلية في مُباحثات آستانا الكازاخستانيّة!

بالعربي- كتبت- ثريا عاصي:

من البديهي أن الجولة الخامسة من المباحثات التي تعقد في حزيران الجاري، في العاصمة الكازاخستانية حول المسألة السورية لن تكون الأخيرة، فستعقبها جولات وجولات توازياً مع تطور الأوضاع في سورية نفسها.

ولا أجازف بالقول أن الغاية الرئيسية من هذه المباحثات ليست إيجاد حل للمسألة السورية. إذ يكفي المراقب أن يتابع ما تنقله وسائل الإعلام عن اجتماعات كازاخستان حتى يزداد قناعة بأن وراء الملف السوري ملفات لا تقل أهمية وتعقيداً وخطورة عنه.

وفي هذا السياق تفيدنا وسائل الإعلام أن في أستانا وفود فرنسية وبريطانية وأردنية بالإضافة إلى مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، وأن هذه الوفود تلتقي على انفراد وفد "المعارضات" المسلحة السورية الذي يشارك في مؤتمر آستانا. هذا يعني أن وفد "المعارضات| المسلحة السورية الذي لا يملك أية صفة شرعية باستثناء إعتراف دول أجنبية به، لها في مجال استعمار وقمع الشعوب سابقات، يناقش مع هذه الدول الموقف الذي يتوجب عليه الإلتزام به في قاعة المؤتمر!

يحسن التذكير هنا بأن هذه الدول الغربية التي تتعهد حركات التمرد المسلحة في سورية، قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع الحكومة السورية منذ بداية انطلاق عملية "الإرهاب الإسلامي" في هذه البلاد، التي أرادت هذه الدول الغربية أن تكون على غرار عملية «الإرهاب الإسلامي» في أفغانستان التي دبرها آنذاك مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجيسكي.

مهما يكن فأغلب الظن أن الأميركيين وحلفاءهم أساءوا التقدير فبالغوا في الإعتماد على الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة من جهة وعلى الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية من جهة ثانية، لا سيما أن الأخوان كانوا قد أمسكوا بالسلطة في تونس وفي مصر، وأن ليبيا بأموالها ونفطها تحولت إلى نبع للإرهاب الإسلامي.

مجمل القول أن هذه القوى استطاعت أن تشن حرباً دموية، تدميرية ضد سورية، ولكن الدولة السورية صمدت ثم استعادت المبادرة في ميادين القتال بمساعدة حلفائها الإقليميين والدوليين، أضف إلى أن الأخيرين منعوا أيضاً الأميركيين والأوروبيين من المناورة في مجلس الأمن وصولاً إلى تكرار الجريمة التي ارتكبوها في ليبيا.

بالعودة إلى مؤتمر آستانا أقول أن الأميركيين والأوروبيين وقعوا أيضاً في خطـأ ثان، إذ ظنوا أنه لا يوجد فرق بين دولة كمثل تركيا من جهة وبين الدول الخليجية شبه المستعمرات من جهة ثانية. فليس مستبعداً أن تكون الحكومة التركية وهي حكومة الأخوان المسلمين كما لا يخفى، أدركت أن المشروع الأميركي ـ الأوروبي ـ الأخواني فشل وبالتالي لا جدوى من الإصرار والعناد اللذين يمكنهما أن يتسببان بحروب على صعيد المنطقة قد تخرج عن السيطرة!

إن هذا كله جعلني أعتقد أن ما يجري في كازاخستان هو في الواقع مباحثات حول تصور أو تسوية أو صفقة بين الروس والأتراك لعلهم يتجنبون صداماً بينهم ربما ترغب بحصوله الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين. ومن المعلوم أن الإيرانيين يشاركون في مؤتمر آستانا، إذ من المحتمل أن يكون الدافع أيضاً هو إبعاد خطر الحرب بينهم وبين تركيا ولا شك في أن ذلك مرغوب به أميركياً وأوروبياً و"إسرائيلياً"!

هذا يدل الذين ما يزالون يأملون خيراً من الأميركيين ومن حلفائهم في أوروبا، كم هي متوحشة وكاسرة هذه الدول الغربية !. ففي كازاخستان، توجد وفود أميركية وأوروبية كما لمحنا أعلاه. يتابعون أعمال المؤتمر من الخارج، من النوافذ، وربما بالتنصت السري.

وفي مختلف الأحوال يبدو أن هذه المباحثات أنتجت حتى الآن عناصر إيجابية وأتاحت بلورة بعض الأفكار، بحيث خفضت من حدة التوتر بين روسيا وتركيا وإيران. تجسد ذلك بتراجع نسبي من الجانب التركي في شمالي سورية، حيث يلاحظ هدوء على الجبهات بوجه عام. من المحتمل أن يكون الموقف التركي «المعتدل» أثّر على «الثوار» السوريين ذوي الميول التركية، أو الولاء لتركيا، استجابة لدوافع إثنية (تركمان) أو عقائدية (إخوان مسلمين). لا ننسى أن مشروع الربيع العربي هو في أصله مشروع مشترك غربي ـ أخواني (تمرد الإخوان المسلمين في تونس، مصر، اليمن ـ انشقاق الإخوان المسلمين عن الدولة في العراق).

أما من جانب إيران فما نلاحظه هو تبدل لهجة التصريحات، فتارة تكون الإنتقادات حادة للأداء الروسي، وتارة تكاد لا تسمع. 

ينبني عليه، إن الأطراف الثلاثة مقتنعون في ظاهر الأمر بأن الخطة الأميركية الأوروبية "الإسرائيلية" لا تلائم مصالحهم.

ولكن لا بد في هذا السياق من أن نأخذ بعين الإعتبار أيضاً عاملين رئيسين:

ـ أن الثوار السوريين ذوي الميول التركية، أو بعضهم على الأقل، يتبعون تركيا عسكرياً، ولكن مصدر أموالهم في السعودية والمشيخات الخليجية.

العامل الثاني: أنهم في جنوب سورية، أقل إعتماداً على تركيا عسكرياً، حيث يعوضون عن ذلك بدعم من الأردن والسعودية و"إسرائيل".

من المحتمل أخيراً أن تكون الأفكار والإقتراحات التي تخرج من آستانا قد أثّرت على علاقات أمراء الخليج ببعضهم وتسببت بالأزمة القطرية، التي كشفت من خلال الإتهامات والشتائم المتبادلة عن إرهابيين تمولهم السعودية وإرهابيين تمولهم قطر.

خلاصة القول أنه من المحتمل أن يتوصل الروس والأتراك والإيرانيون إلى قاسم مشترك بينهم، قبل أن تقتنع المعارضات المسلحة في سورية بأنها جماعات ضالة!