بين شطري شجرة

بالعربي_كتب: بدر ابو نجم

رومانية الزمان، متراجعة عائدة، متهدمة صاعدة ، تخضر فوق الخنادق وفوق السنوبر، ما غادرت يوماً الميدان، صامدة في الأرض المقدسة، شامخة هناك في الشام اليتيم، تفوح برائحة الأرض، هي قصة حب بين شجرة الزيتون والدم الفلسطيني الممزوج بترابها.. تلك الشجرة المباركة.

إن الذكريات تجيء ولا تؤذي.. لطالما عندما كنا صغاراً إختبئنا بين شطري شجرة الزيتون المنقسمة منها إلى نصفين كالتوأم الذي يربطه جذع فقط  ،كفراق بين توأمينفي روح واحدة. أطفالاً نتخفى في نصفها، نتمسك بساقيها، ننظر من بين ثقوبها ،نراقب الفلاحين من بعيد؛ نختبئ بين ثناياها لنشعر بأمان الطفولة.. هي المكان الأكثر أماناً في ذلك العمر الجميل.

فلسطين ومعركته مع الإحتلال جاء ليأكد أن الهدف الرئيسي للإحتلال هو إجتثاث الشجرة المباركة من جذورها في أرض فلسطين وقتل علاقته بها إيماناً منه بدرايته الكاملة على عمق هذه العلاقة وما تعنيه للفلسطيني.

أصبحت تلك الشجرة من ضمن أهم الأهداف للإحتلال الذي إقتلعها من جذورها ، والإحصائيات والأرقام توضح حجم المؤساة؛ ليصل فيه الأمر إلى أن يحرقها أمام أعين أصحابها يقيناً منه على حجم الحسرة التي يخلفها هذا المشهد أمامهم.

في بداية الأمر كنت أعتقد أن حياة الإنسان هي أغلى ما يملك ، لكني عزفتعن ذلك الإعتقاد ؛ فاللفلسطيني حال مختلف عن ذلك ... كيف لك أن تتخلى عن حياتك من أجل شجرة زيتون؟؟

كيف لك أن لا تصدق ذلك عندما ترى حال رجلاً تغرف عيناه نهرا من الدموع أحرقت أشجار زيتونه من قبل مستوطن ؛ ليس بيده إلا أن ينظر إليها وهي تتفحم أمام أم عيناه دون أن يستطيع فعل شيء.

كيف لك أن تفسر تعابير وجهه اليتيمة آنذاك.

أيقنت أكثر من ذي قبل أن للفلسطيني أشياء أغلى من حياته.

لا أخفي أني رأية مواقف كثيرة كذلك الشيخ الكبير الذي يهرع دمعه على شجرة زيتون أحرقها له مستوطن حقدا ، لكني لم أتخيل حجم التأثير الذي يحدث لصاحبها وكأنه فقد أحد أبنائه .

أذكر صورة معروفة إلتقطها مصور صحفي منذ عقدين ونصف، لأم تقطن في إحدى القرى الفلسطينية ، كانت تتمسك بما تبقى من آخر شجرة لها، لم يبقى منها إلا الساق بعدما قطعها مجموعة من المستوطنين ، وظهرت بحالة في غايةالحزن والألم والبكاء الشديد وهي تحتضن ساق الشجرة ؛ تستطيع أن تعنون ذلك المشهد بعناوين شتا ، وبإمكانك أن تصنع قصة فيلم حقيقي، تدور أحداثه ربما لإمرأة فقدت كل أبنائها .

كما يظهر أيضاً في الصورة مجموعة من جنود "إسرائيليين" يجلسون فيعربتهم ،بينما جندي آخر يقترب من الإمرأة قليلا ً ، ويخفض سلاحه كأنه يستسلم لها ،وينظر إليها بإستغراب شديد ، وحاله  كما حال الجنود الآخرين .

أصبحت تلك الصورة المؤرشفة ، تروي للعالم كل القصص التي تتحدث عن علاقة الأرض والزيتون بالإنسان الفلسطيني والعربي.. هنا تستطيع أن تعرف كيف مزج الدم الفلسطيني بالتراب والأرض.