تحقيق استقصائي: "تجارة الحرق"

بالعربي_تحقيق: وفاء العاروري:

في وضح النهار ودون أي خوف من حسيب أو رقيب، تفرغ الشاحنات ما تحتويه من نفاياتٍ إلكترونية، في قلب بلدة إذنا غربي الخليل، أطنان من النفايات تدخل البلدة يوميا، ومنذ سنوات طويلة.

الجهات المختصة، من بلدية وسلطة جودة البيئة، والعمال الذين يعملون في هذه النفايات، أكدوا لـ وطن أن مصدرها هو دولة الاحتلال.

وحدة الصحافة الاستقصائية في وطن،تابعت هذه القضية على مدار شهرين، جمعت الحقائق وحللتها واستخلصت نتائج خطيرة، تمس بصحة الانسان والبيئة في بلدة إذنا.

لماذا تُجلب هذه النفايات؟!

في الزيارة الميدانية الأولى لبلدة اذنا، استطاع طاقم وطن إقناع عمال "الخردة"، كما يطلق عليهم، شرح كيفية معالجة هذه النفايات، فقال محمود ابو جحيشة، احد العمال لـ وطن، ان النفايات الالكترونية أو "الخردة"، تصل اذنا من خلال تجار من الداخل المحتل، يمتلكون سيارات ذات نمر صفراء "اسرائيلية"، يجلبون هذه النفايات فيشتريها تجار البلدة، ويقومون بتفكيكها، واستخلاص ما يمكن استخلاصُه منها، وهي مواد ثمينة "كالذهب والفضة" إضافة للنحاس والحديد، وقطع غيار باهظة الثمن.

وأضاف أبو جحيشة: ثم نبيعها مرة اخرى نظيفة "بالكيلو"، الى تجار في البلدة وهم بدورهم يقومون ببيعها الى الشركات، وتطابقت أقوال هذا العامل مع عامل "خردة" آخر، من نفس البلدة، يدعى جهاد نوفل.

جبال من النفايات

يبيع التجار القطع الثمينة المستخرجة من هذه الاجهزة، الى الشركات، تظل مخلفات هذه العملية على اراضي الضفة الغربية، حيث تراكم جبال من النفايات يوما بعد آخر.

طاقم وطن نفذ جولة ميدانية في البلدة، والتقى بسكان المنطقة، الذين أكدوا ان هذه النفايات غالبا ما تحرق، وشرحوا لـ وطن معاناتهم إزاء ما تخلفه عملية الحرق، من تلوث هوائي ومائي وبيئي، وامراض رئوية كثيرة يصابون بها.

ماذا عن بيئة إذنا؟

ولأن الدراسات السابقة التي أعدت حول هذه المشكلة، ركزت جل اهتمامها على ما تتسبب به  المخلفات من أمراض للمواطنين، فقد قررت وحدة الصحافة الاستقصائية في وطن فحص الضرر الذي يقع على البيئة نتيجة هذه المخلفات، وبالتالي ضررها البعيد المدى على صحة المواطن.

ولأن أول الأمر وآخره صحي وبيئي، كان أول باب طرقته وطن للسؤال حول هذا الموضوع، هو وزارة الصحة، التقينا هناك رئيس قسم الصرف الصحي والنفايات الصلبة، المهندس محمود عثمان، والذي أكد لـ وطن الأثر الكبير الذي تخلفه النفايات الالكترونية على التربة والهواء والماء، مضيفا أن هذه العناصر الثلاثة لها علاقة مباشرة بسلسلة الغذاء التي تصل للانسان، وهو ما يسهل عملية انتقال الامراض مباشرة اليه فيما لو تلوثت أحد هذه العناصر

حرق في وضح النهار

نسقنا في وطن لجولة ميدانية مع كافة الجهات المختصة، بلدية إذنا، سلطة البيئة ووزارة الزراعة، لسحب عينات من تربة القرية، وإرسالها إلى المختبرات الطبية، من أجل معرفة حجم العناصر الثقيلة والسموم التي تحتوي عليها.

اللافت للنظر أنه حتى خلال سحب العينات، رصدت كاميرا وطن عملية حرقتتم على الجبل المقابل فتوجهنا لهم مباشرة.

المراقب الصحي في بلدية إذنا، احمد سليمية، عقب على هذه الحادثة، قائلا انها ليست المرة الاولى التي يلحق فيها هؤلاء التجار الخراب بالارض والبيئة، نتيجة عملية الحرق المتكرر للنفايات الالكترونية.

فحوصات شاملة للعينات

توجهنا بالعينات التي تم سحبها إلى مختبرات الصحة في جامعة بيرزيت، حيث أخبرنا مدير المختبر، بلال عاموص، أن النتيجة ستظهر بعد نحو ثلاثة أسابيع، وقال عاموص ان العينة سيجري عليها نوعان من الفحوصات: الأول فحص نسبة المواد غير العضوية، مثل المعادن الثقيلة "الزئبق، الزرنيخ، الرصاص، النيكل" والنوع الثاني فحص نسبة المواد العضوية السامة.

الجهات المختصة.. أين؟

وفي هذه المرحلة من التحقيق كان لا بد من مساءلة الجهات المختصة عن دورها الرقابي على هذا القطاع، والذي بلغ عدد العاملين فيه، في إحدى السنوات 1500 عامل، وفقا لبلدية إذنا.

سألنا مدير قسم الصحة في بلدية أذنا، وليد أبوجحيشة، عن دورهم الرقابي، فألقى باللوم على جهات مختصة اخرى.
وقال أبو جحيشة لـ وطن نحن نواجه مشاكل مع المواطنين في حال اردنا اتخاذ اجراءات صارمة بحق التجار، مؤكدا ان القبلية والعائلية تلعب دورا كبيرا في الحد من الدور الرقابي للبلدية.

الجهات المختصة ليست ذات اختصاص
سألنا رئيس قسم الصرف الصحي والنفايات الصلبة، المهندس محمود عثمان في وزارة الصحة عن دورهم الرقابي على هذا القطاع، فقال إن الصحة ليست ذات اختصاص أيضا، مؤكدا ان الجهة الرسمية المسؤولة عن ذلك هي سلطة جودة البيئة.

وفي وقت ألقت فيه البلدية والصحة اللوم على سلطة جودة البيئة، كان لا بد من مواجهتها بالحقائق التي جمعناها حتى اللحظة. توجهنا لمدير سلطة البيئة بمحافظة الخليل، بهجت الجبارين، فأكد لنا أن البيئة تعمل حاليا على تنظيم هذه المهنة، وادارتها، وفقا لشروط السلامة، ولديهم العديد من المشاريع في سبيل تحقيق هذه الغاية.

سلطة جودة البيئة.. هل تتجاوز اتفاقية بازل؟

ولكن جبارين غفل في قوله هذا عن اتفاقية بازل الدولية التي وقعت عليها فلسطين، والتي تحظر أساسا نقل النفايات الالكترونية من دولة الى اخرى، نظرا لخطورتها الشديدة، حيث تعتبر هذه النفايات إحدى أكثر عشر مشاكل خطورة على العالم.

وردا على هذه النقطة، قال جبارين إنسلطة جودة البيئة لا تشرعن ما هو غير مشرعن، ولكنها تحاول ايجاد حل واعٍ لهذه المشكلة التي تفاقمت واصبح لها تشعبات وارتباطات كثيرة مع عدد من القطاعات الاقتصادية والبيئية والصحية وغيرها.

نتائج الفحوصات

بعد ثلاثة أسابيع عدنا إلى مختبرات بيرزيت مرة أخرى، وحصلنا على نتائج الفحوصات، فكانت كالتالي:
 العينة الأولى: والتي سحبت من سطح موقع حرق للنفايات، ملوثة بنسب عالية جدا من سبعة عناصر ثقيلة هي الكادميوم، والرصاص والنحاس، والزنك والنيغل والزرنيخ والزئبق، ما يعني أن التربة في هذا الموقع غير صالحة على الاطلاق.

 العينتان الثانية والثالثة واللتان سحبتا من عمق مواقع حرق للنفايات، ملوثتان بآلاف الجزئيات من العناصر الثقيلة المذكورة، أي أنهما غير صالحتين أيضا.


 العينة الأخيرة والتي أخذت من تربة مزروعة بالمحاصيل، كانت ملوثة ولكن بنسب قليلة، من كافة العناصر المذكورة.

نتائج غير مسبوقة
مدير مختبر جامعة بيرزيت، بلال عاموص، أكد لـ وطن انها نتائج غير مسبوقة على مستوى العالم، لعينات من التربة، ما يدل على تفاقم الوضع إلى درجة خطيرة جدا في هذه المنطقة، مناشدا كافة الجهات بالتحرك السريع لإنقاذ صحة البيئة والانسان في إذنا.

وتعقيبا على هذه النتائج، أكد ياسر أبو شنب، القائم بأعمال الادارة العامة لحماية البيئة في سلطة جودة البيئة، انهم على دراية مسبقة بوجود 600 موقع لحرق النفايات في بلدة اذنا، من مساحتها الكلية البالغة 14 الف دونما.
وبناء على نتائج العينات التي قمنا في وطن بفحصها، فإن هذه المواقع ثبت تلوثها وانعدامها زراعيا.

هل ستؤخذ نتائج وطن على محمل الجد؟
توجهنا في وطن إلى وزارة الزراعة، المسؤولة المباشرة عن التربة، لاطلاعها على نتائج الفحوصات ومعرفة الاجراء الذي سيتخذ بناء على نتائجنا، فأكد لنا مدير دائرة تصنيف الأراضي، عماد غنمة، ان هناك العديد من الاجراءات ممكن ان يتم اتخاذها بالتعاون مع بقية الجهات المختصة في هذا السياق، واهم هذه الاجراءات هو البدء بوقف الانتهاكات بحق التربة واستنزافها اليومي،وثانيا استصلاحها زراعيا من اجل ان تصبح قادرة على الانتاج.

وأمام كل ما سبق فإن هناك حقيقة واحدة متففق عليها، بأن الأرض في إذنا تدمر يوميا، ولم تعد صالحة للزراعة بتاتا، والكل يكتفي بالتفرج من بعيد دون خطوات جدية على الارض لوقف هذه الانتهاكات.


المصدر: وكالة وطن للانباء