على عتبة بيت أحد "قتلة فقها".. ألم الخيانة يقتل الأهل

بالعربي: لم يكن سهلًا أن تطرق باب بيت أحد المتخابرين الثلاثة مع الاحتلال، بل كان من المستحيل الدخول بنقاش مع أم "عميل" تجاوز عمرها السبعين، في حين يفصل بين ابنها والحياة مجرد ساعات!

تلك البيوت التي لا تقل وجعًا عن بيت الشهيد، الآه واحدة هنا وهناك، والفقد كذلك واحد، ويُتم الصغار واحد، إلا أن الخاتمة اختلفت!.

"سامحيني يمه .. أنا تُبت" عبر أسلاك الهاتف وصلت رسالة ابنها "ه.ع" الأخيرة وصوته المرتجف قبل أن يُلف حول رقبته حبل المشنقة! 

لم يكن السكوت هنا علامة الرضا، كان سكوت الأم خلال اتصال ابنها علامة الصدمة والعتاب، ولسان حالها: "لماذا خنت يا ولدي وأنت الثائر في نظري؟" .

كانت تود لو تقيأت قلبها مرة واحدة قبل البوح بكلمة، فابنها الذي خسرته كان بمثابة كتفها الثابت، واليوم باتت الحجة بلا سند، تميل برأسها جنبًا حين تُذكرها جنبات غرفتها بأن الذي خان الوطن فجأة هو ابنها!

لم تكن صدمة تخابر ولدها مع الاحتلال هينة، وهي التي خبأته يومًا من جنود الاحتلال تحت ذراعها خوفًا من اعتقاله أبان انتفاضة الحجارة عام 1987، إلى أن تم اعتقاله خلال عام 1995.

"ولادي كلهم حمساوية (...) ولادي كلهم مقاومين"، رددتها مرتين أو أكثر وقد علت نبرة صوتها، كانت تحاول أن تقارن بين النهايتين، الأولى لابنها الشهيد قبل عشر سنوات والذي ودعته بدمعة وزغرودة فخر، أما الثانية بدمعة وحسرة في القلب لن تنتهي بخاتمة العار!

"ممنوع نحكي" قاطعتنا زوجة ابنها وهي تود لو غادرنا المكان إلا أن شقيق الحاجة السبعينية الذي شاركنا اللقاء أخبرها أنه لا بأس من المقابلة "سيبيها تفضفض" .  

لم تغفل ذاك الجزء الذي يموت من حبة القمح بعد أن يبدأ بالاصفرار إلى أن يموت فجأة، لم يكن مشهد الحصاد بعيدًا عن حالة ذوي العملاء لاسيما أن الأبواب كانت مؤصدة والتحركات كانت محدودة خوفًا من ملاحقة النظرات وإشارات المارة.

ساد الصمت الغرفة التي جلسنا خلالها في مدخل البيت إلى أن قطع صمتنا جميعًا عملة لنصف شيكل وقعت من طفل جاء ليشتري قطعة من الحلوى التي تبيعها الحاجة أم " ه.ع".

تحولت أنظارنا جميعًا إلى الفتى الصغير وكأن كلًا منا يحاول الهروب من دوره في الحديث التي امتزجت خلاله الحسرة بالدمعات، بينما كان هناك شيء بداخلها يهرب من الحقيقة المرة "نعم ابني عميل".

غضب ولا شيء آخر حاول أن يفرغه أحد أقرباء "ه.ع"، كان من الصعب عليه استيعاب أن الزيارة لم تكن للحديث عن المتخابر، إنما للحديث عن عائلة ضحت بابنها وخمسة من أفرادها ودعوا الحياة شهداء خلال العدوان الأخير على غزة!

أخفى الشاب وجعه وهشاشة قلبه خلف صوته ورغبته بضرورة الرحيل، غادرنا المكان ونحن نؤكد للحاجة أنها ستبقى في نظرنا أم الشهيد ولا يمكن أن تزر هي وازرة ابنها يومًا.

حاولت الحاجة السبعينية أن تبتسم وكأنها تطلب سماحنا من غضب حفيدها، في حين تدافعت دمعاتها تباعًا كما دعواتها "ربنا ما يحط حدا مكاني".

"سامحته .. بديش أسامح ابني؟(...) الله يغفرله" بصوت تخنقه الرجفة، تمامًا كتلك التي صاحبت طلب ابنها الأخير "ولادي يمه حطيهم بعيونك".

غادرنا المنزل كما أطفال "ه.ع" السبعة الذين توجهوا لزيارة والدهم للمرة الثالثة بحسب جدتهم، في حين لم تقوَ هي على المشي بسبب وضعها الصحي وتدهور حالتها بعد الحكم عليه بالإعدام شنقًا لتورطه في حادثة اغتيال المحرر مازن فقهاء وتخابره مع الاحتلال منذ عام 1998.

عتبات بيت وغضب آخر

لم نعلم ما الذي يدور في قلب المتخابر مع الاحتلال "ع.ن" خلال ساعات حياته الأخيرة .. لا نعلم إن كان يشعر بالخزي أو الندم أو كليهما معًا، لا نعلم إن كان يفكر في حفلة تخرج ابنته الوحيدة، والتي لربما كانت تغني له في طفولتها "ماما وبابا بحبوني..علموني وربوني"..

لا نعلم أيضًا إن علمها حب الوطن وأن ألوان العلم أربعة يتوسطها الأبيض وفجأة خان هو الوطن وخان وخان!

كان مثيرًا للشفقة أن نضل الطريق عن منزل "ع.ن" لأكثر من مرة، كنا نحاول تجنب سؤال المارة خوفًا من جرح قد نتركه لأهله من حيث لا ندري، كنا أشبه بذاك الطريق الذي ضله "العميل" بعد خيانته لأهله قبل وطنه!

استحضرنا مقطع الفيديو الذي نشرته وزارة الداخلية وما ذُيل أسفل السيارة التي كان يجلس بداخلها "ع.ن" يفيد أنه "عنصر رصد وتأمين من الجهة الغربية لمسرح جريمة اغتيال فقهاء".

شقيقه كان أول من استقبلنا، في حين رفض والده الحديث وصرخ قائلًا "ابني ضحية"، في حين أبدى امتعاضه من قرار تنفيذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص.

كانت المحطة الأخيرة لنا، والتي لم نعلم خلالها إن كان العميل "ع.ن" يريد الصراخ في وجهنا جميعًا ليقول "دعوكم من ابنتي.. لا تنعتوها بابنة العميل .. هذه خيبتي وخيانتي وحدي" !

المصدر: الرسالة