قراءة تاريخية في الإخفاق العربي بمواجهة الصهيونية

بالعربي- كتب كرم الحلو:

الحركة الصهيونية حركة عنصرية استعمارية استيطانية، وهي مشتقة من كلمة «صهيون» وهو اسم جبل في القدس، ومعناها الأرض الموعودة، أو الأرض المقدسة. وقد عارضت اندماج اليهود في أوطانهم الأصلية، ودفعتهم إلى الهجرة إلى فلسطين، زاعمة أن الشعب اليهودي يشكل عرْقاً نقياً صافياً، وأن لليهودية صفة القومية. فهل أدرك العرب حقيقة الخطر الصهيوني وارتقوا بوعيهم إلى رد متناسب معه؟ وهل تزامن هذا الوعي مع بدايات الدعوة الصهيونية والعمل على تحقيقها؟ وإذا لم يكن كذلك فلماذا قصّر العرب وأين كانوا من تحركات زعماء الحركة الصهيونية، ومحاولاتهم كسب القوى الدولية كافة لمصلحة مشروعهم؟

في الإجابة عن هذه التساؤلات اعتمدت سهيلا سليمان الشبلي في «المشروع الصهيوني وبدايات الوعي العربي لمخاطره 1897 ـ 1917» مركز دراسات الوحدة العربية 2016، على الصحف المعاصرة فترة الدراسة، ومنها «المقتبس» لمحمد كردعلي في دمشق العام 1909 و «الكرمل» لنجيب نصار و «المنار» لمحمد رشيد رضا، وعلى المذكرات الشخصية التي منها مذكرات عزة دروزة وأسعد داغر ويوسف الحكيم وسامي البارودي وسواهم. كما رجعت الى مذكرات زعماء الحركة الصهيونية ويومياتهم، كيوميات هرتزل ومذكرات وايزمان وبن غوريون. ومن المصادر العربية اعتمدت المؤلفة «يقظة الأمة العربية» لنجيب العازوري، ومؤلفات خيرية قاسمية وسهام نصار وأسعد رزوق في المسالة اليهودية.

تكمن أهمية الدراسة في دراسة الوعي العربي ورصده، متى بدأ، وكيف تطور والآلية والوسائل المستخدمة في التعبير عنه، انطلاقاً من ان المرحلة الزمنية بين انعقاد المؤتمر الصهيوني العــــالمي العام 1897 واصــــدار «وعد بلفور» العام 1917 تحدد شكل صراعنا مع الصهيونية.

أدت مجموعة من الظروف والأحداث دوراً مهماً في اثارة الوعي العربي لخطر المشروع الصهيوني منها المؤتمر الصهيوني الأول في بال، وموجات الهجرة اليهودية، بخاصة الهجرة اليهودية الثانية وتطبيق سياسة العمل العبري والاستيلاء على أراض واسعة وعدد من القرى، وكانت الصحافة العربية في دمشق وبيروت والقاهرة ومنها «الأهرام» و «المؤيد» و «الاتحاد العثماني» و «المقتطف»، الأشد تأثيراً في التطورات.

إلا أن ثمة مؤشرات على قصور الوعي العربي في مرحلة الدراسة، منها بروز الدعوة الى تفاهم عربي صهيوني مع انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس العام 1913، ما جيّره الصهاينة لمصلحة مشروعهم. كما أن الحركة الصهيونية استغلت ظروف الحرب العالمية الأولى 1914 واحتجاب الكثير من الصحف العربية وتراجع أولوية الخطر الصهيوني، لإعادة ترتيب أوراقها. لكن ذلك لم يمنع وجود وعي عربي بمخاطر الصهيونية، حتى لأن مستندات عُثر عليها في القنصلية الفرنسية العام 1915 تحدثت عن خطة عربية لإضرام النار في المستعمرات اليهودية. وقد تجلى هذا الوعي بصورة عامة في شبه اجماع عربي على أن الصهيونية هي خطر على الأمة العربية والدولة العثمانية، وكان محمد رشيد رضا الأسبق في التنبيه إلى أن الصهيونية تريد احتلال بلادنا واستعمارها. وفي برنامج «الحزب الوطني الاسلامي» الذي أسسه سلمان الناروفي العام 1911، اعتبرت الصهيونية «نذيراً بنفينا عن وطننا وطردنا من بيوتنا وممتلكاتنا».

وتجلى الوعي بحقيقة الصهيونية كذلك في إدراك أسباب نجاحها وقوتها، وفي مقدمها التعليم، وحال التقدم والازدهار التي تشهدها المستعمرات الصهيونية، وإقبال اليهود على تملك الأراضي في فلسطين، الأمر الذي نبهت الى خطورته صحيفة «المؤيد» ومجلة «الهلال».

كما أكد أمين أرسلان العام 1897 في «المقطّم» أن شراء الأرض هدفه اقامة مملكة "اسرائيلية" عاصمتها القدس. وذكر فرح أنطون أن القصد منه هو عودة اليهود الى فلسطين بحجة أن الأرض أرضهم وأرض أجدادهم. وتحدث نجيب العازوري عن «جهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة "اسرائيل" القديمة».

كان الوعي لخطر الصهيونية الاقتصادي لدى الفلسطينيين أسبق وأكبر منه لدى بقية العرب، في حين أن الوعي العربي خارج فلسطين انصب على خطر الصهيونية السياسي. في هذا قدمت «الكرمل» وصفاً للآلية التي يعمل وفقها الصهاينة، بقولها: «كلهم يعملون بجد ونشاط، لا يستخدمون أحداً من الوطنيين في مصانعهم، ويسعون للقضاء على الصناعة الوطنية».

واتبع الصهاينة أساليب أدرك العرب بعضها، مثل شراء الصحف واصدارها واستخدام كتّاب من غير اليهود للدفاع عن مشروعهم. ولجأوا إلى الرشوة للاستيلاء على الأراضي، والتظاهر بالجنسية الأجنبية للتهرب من الضرائب، ونشر الفساد الخلقي من أجل تحقيق مآربهم.

من مظاهر الوعي العربي لمقاومة المخططات الصهيونية، الدعوة الى تقوية التجارة والصناعة الوطنية، وتوعية المواطنين على حقوقهم القانونية، وتشكيل أحزاب وجمعيات لمواجهة الخطر الصهيوني، من أقدمها الهيئة المحلية التي ترأسها مفتي القدس محمد طاهر الحسيني العام 1897. ورداً على تطبيق سياسة العمل العبري عامي 1907 و1908، ظهرت الدعوة الى مقاطعة كل ما هو منتج صهيوني في الأوساط العربية، وبدأت عام 1910 حملة لمقاطعة البضائع المصنّعة في المعامل اليهودية.

وفي مواجهة الحركة الصهيونية، تمت الدعوة الى نبذ التقاعس والكــــسل، والاقتداء بالعدو في التنظيم والاخلاص والتفاني في العمل، فتقليده أفضل طريقة لمواجهته.

ثمة خلاصات أساسية خرجت بها المؤلفة:

أ ـ برزت في خلال هيمنة حزب «الاتحاد والترقي» أولويات بالنسبة للعرب فاقت في خطورتها وأهميتها التهديد الصهيوني، ما انعكس في الدعوة الى التفاهم مع الحركة الصهيونية، ونجاحه في المؤتمر العربي الأول 1913 في باريس.

ب ـ لم تكن الأوساط العربية في وعيها الفكرة الصهيونية بالمستوى الذي يرقى الى درجة خطورة المشروع الصهيوني، ما تجلى في قصور واضح في المعرفة بالصهيونية، وتجاهل خطرها أو إنكاره.

ج ـ غياب موضوع الخطر الصهيوني عن برامج الأحزاب والجمعيات العربية ومحدودية مقاومتها له وتوعيتها لخطره.

د ـ في حين كانت الصهيونية مؤسسية في صياغة مشروعها وتطبيقه، لم يكن الوعي العربي للخطر الصهيوني قائماً على منهجية علمية، بل كان عشوائياً وفردياً وموسمياً.

هـ ـ علم العرب بمخاطر الصهيونية ومراميها، قصّر الوعي حيناً، وقصّر العمل أحياناً. لم يكن هؤلاء بالمستوى المطلوب في مواجهة المشروع الصهيوني بكل خطورته وجذريته، ولعلهم في قراءة سلبيات الماضي وايجابياته يترسمون مساراً آخر يقلب اخفاقات التاريخ وخيباته.

 (سهيلا سليمان الشلبي «المشروع الصهيوني وبدايات الوعي العربي لمخاطره 1897 ـ 1917» مركز دراسات الوحدة العربية 2016، 286 صفحة).

المصدر: (السفير)