في عامي العشرين.. سأختار الجمرة وأهجر التمرة

بالعربي: كتبت بيان عاروري

يقول حسين البرغوثي: تجاربي معبدي. ومعبدي مُقدّس. وأنا فأدخل عامي العشرين بعد يومين. صخبٌ وتيه ومراجعات لعامي الماضي. محاكمات أقيمها على نفسي جزاءً لحماقاتي السخيّة أمورٌ مرتبة تجري كما خُططّ لها بلطف الله الخفيّ فأضع بفخر وامتنان علامة بجانبها.

حشد من الأفكار المتشابكة في رأسي الصغير سابحةٌ في فوضى لذيذة وهنالك سُبلٌ مغبّشة وأخرى تفتح يديها كأمٍّ لهوف. قوائم ضخمة لما أحبّ وأمنيات تطنّ ولا تكاد تعرف الهدوء. وبين كل الاحتمالات والنبوءات والأحلام إن سُئلت ماذا أريد لبقيّة حياتي سأختار أن ألتهم التجربة.

التجربة في قاموسي تساوي الحقيقة الصافية ولا تشبه زيف الإسقاط المباشر لتجارب الآخرين على حياتنا مُترفّعين عن خوض هذه التجارب بأنفسنا، تاركين معركتنا الأولى بلا جنود لأننا مشغولون في الإصغاء بأدب مصطنع لحكم الآخرين، ليرمونا بأغلالٍ وقيود ثقيلة صمّاء حتى نلزم باب الحكمة ونواظب على قرعه بقبضةٍ متماسكة وننتظر بعجز منفّر أن تفتح لنا الحكمة بابها المهترئ وتسقينا رشفةً من يدها لا نظمأ بعدها. ثم ماذا؟ وكأن الأمر بهذه البساطة وهذه الفوريّة المدّعاة. ولكن ما هكذا تورد الإبل.

ثم يحدث أن نُجَرّ لمقصلة التوازن ومتطلباته لكن بلا زيّ أبيض موحّد كما يحدث في حالات الإعدام الواضحة بل بملابسنا اليوميّة الملوّنة! الشروط مباشِرة وهي أن لا تزل قدمنا ولا يرّف جفننا وأن لا نخطئ.

أوه! يا لها من حياة سهلة وكأنّ خريطة الحياة بجيب قميصنا أو أنّ هذا العالم بطريق واحد عقيم لا تفرّعات له ولا وجهات مجهولة فيه أو حفر مزروعة في كل مكان. الحياة بتصوّر هذا الصنف من البشر عبارة عن عدّة حزم جاهزة ومتكاملة تتشابه بملل غالبًا.

يقولون لك: لا عليك اختر حياة وعِشها وتجدهم يؤمنون بالوصفات السريعة على شاكلة الإعلانات الساذجة السيئة التصميم مثل وداعًا للأخطاء والقلق في الحياة أو خطوة واحدة تفصِلك عن السعادة النهائية، أو لا مشاكل بعد اليوم.

الغريب أنني حتى من ناحية دينية لا أذكر أني قرأت في محكم كتاب الله أنه يريد بشرًا بلا أخطاء يلتصقون بالحائط بخضوع ومعتنقون للفضيلة دومًا لأن الله يريدنا بشرا لا ملائكة بأجنحة. وأذكر جيَدًا الحديث: لولا أنكم تذنبون وتستغفرون لأتى الله بقوم غيركم يذنبون ويستغفرون.

إذًا من قال إننا نطمح بأن نحيا حياة مسالمة صفراء دون مشاكل أو أخطاء؟ من قال إننا نرغب في غزر رؤوسنا في الأرض نعدّ الحصى بأعيننا دون أن نركلها بصبيانيّة حتى.

يتجاهلون أنّ الإنسان أكثر ما خلق الله جدلاً، المحاولة والبحث وارتكاب الأخطاء إحدى سماته وخلق الأسئلة فرض وعليه مطاردة الإجابات بجهد فرديّ ودعم إلهيّ. فكيف أجرؤ أن أطلب بدون تعقّل حياةً لا تشوبها المتاعب والذنوب ولا تفقه المغامرات؟ الحكمة المطلقة صفة الربّ أما الحكمة الجزئية فهي شأن كبار السنّ وأنا لست أحدهما. فلماذا أدّعي الحكمة وأنا أجهل معالم نفسي؟

بالنسبة لي أطمح لحياة تكون التجربة سِمتها الأولى، أريد أن أخرج رأسي من نافذة الحافلة وأعبّئ رئتيّ بهواء العالم، أن آكلَ من شوارع إسطنبول وأغترف من النيل ولا أرتوي أبدًا وأمشي حافية على رمالٍ حارّة وأغنّي ما أحفظه من شارات الكرتون وأن أقطف موزًا بيدي من الشجرة فقد نسيت أن الموز يسكن الشجر لا علب الكرتون البائسة. وأن أركض حتى ينقطع نفسي ويوخزني قلبي ولكنني ألهث بسعادة. أن أقرأ في قطارٍ. وأحلّ مشاكلي بكثير من الدموع يتبعها قراراتٌ حازمة تشبه السيف حينها سيساعدني اللّه كما يفعل دومًا. وأمضي بلا مظلة تحت عطايا ربّ الغيوم ولن أفكّر في الزكام. أن أبتلع الخيبات المُرّة والندم اللاذع وأتحمّل عواقب أخطائي بشجاعة وجسارة ثم أنضج. أن أصلّي في المعابد كلها وتنحلّ عقدة لساني فأفرغ ما في روحي من أدعية وابتهالات مبتدأةً بأن يسّلم الله قطتي الشقيّة وأختمها بأنْ يحفظ العالم ويوقف مسرح الدم. أريد أن أمدّ يديّ للأشياء من حولي وأصافحها. وأن أتعرّض للمشاعر كلها لآلفها كما آلفُ وجه أمّي. وأن أظفر بالحُبّ الأبديّ.

ثم أتجاوز كل هذا لأجلس في نهاية عمري أبتسم بخشوع والتجاعيد تأكل وجهي. كفّي لم يعد صلبًا ولا عودي بات أخضر. صخبي انطفأ ولكن قلبي توّهج بالحكمة الصادقة. حسبي من هذه الدنيا تجربةٌ كاملة تمنحني قدرًا يسيرًا من المعرفة بعدما منحتها كلّ ما أملك. حسبي من هذا الدرب بصيرةٌ نافذة نتجت عن حياةٍ مُعيشة فعليًّا لا مكتوبة بحروف ميّتة في الكتب.

حياة واحدة حقيقيّة سأعزّي بها نفسي كلّما دخل اليأس قلبي. وأردّد: لا فضيلة دون تجربة. وهي عزاءٌ كافٍ.

المصدر (الجزيرة)