ذنبك الوحيد إنك إبن مخيم

بالعربي: كتب محمود حسنين

"نيالكم لا بتدفعوا مي ولا كهربا" هذه أولى الكلمات التي يقولها لي الكثير من الأشخاص عندما يعرفون اني أسكن في مخيم للاجئين، وكأن حياة اللجوء التي أعيشها انا وغيري تقتصر على فاتورة ببضعة شواقل، ويظنُ البعض انها تغنينا عن قُرانا التي سُلبت منا عام 1948، والتي خرج منها جدي وإخوته تحت  أزيز الرصاص والمجازر، إن الناس يحسدونا على شيء لا يستحق الحسد، هل المخيم شيء جميل، أو هل غربتنا عن وطننا شيء أجمل!.

ما أقسى أن تكون ضريبة اللجوء  كلمات من أبناء جلدتنا يعايروننا بالمخيم وبحياته، وأصعبُ شعور أن تحسَّ بالغربة وأنت في وطنك الكبير، فينظرون إليّك نظرات استهزاء ، وكأنك من عالم أخر وذنبك الوحيد أنك لاجئ وابن مخيم.

أنا من قرية اسمها طيرة دندن، وحقيقةً لا أعرف أين تقع سوى على الخريطة الورقية، لم أزرها طيلة حياتي، لكن حدثني عنها جدي كثيرا، قال: "بلادنا أحلى بلاد، وقدْ ما تهجرنا أخرتنا نرجع يا سيدي"، إعلم عزيزي اننا في المخيم أجساد والروح تقبع هناك ،تأبى الرحيل عن الأرض الام، لتعلم انت وغيرك ان جدي يبكي دائما على الفردوس الذي سلب منه ومن إخوته، وفي آخر عمره أصبح حديثه عن القرية وحنينه للعودة بأقرب وقت، وكل كلامه عن الحياة في القرية والجيران هناك والزراعة والحصاد.

حقيقة لا أدري كيف صور لي جدي بكلماته القرية أمامي وكأنني عشت فيها سنينَ كثيرة، قال: أنه كان يتسلل مع أخيه بين الحين والآخر لرؤية ما حصل للقرية، وجلب مؤونة للعائلة  من هناك، كان ذلك قبل عام 1967، ولكن بعدها لم يزرها إلا مرتين بتصاريح دخول من الاحتلال.

قال لي إنه في أخر زيارة للقرية كان موسم الزيتون قد بدأ، وعندما وصل لشجر القرية بدأ يقطف كميات من الزيتون ويضعها في أكياس، فجاء إليه أحد الصهاينة وقال له بالحرف الواحد "خذ أكم حبة للذكرى بس ما تلقط أكثر"، شعر جدي بالجرح يزداد أكثر فأكثر في قلبه، وهو يقول له هذه الشجرة لنا فرد عليه الصهيوني بكل ازدراء "كانت لكم أما الأن فهي لنا، اخرج من الأرض الآن".

حدثني أنه كلما كان يقترب من القرية كان يشم رائحتها في الهواء، وهواؤها مختلف عن كل البلاد، هل بالغ جدي في وصفه أدق التفاصيل للقرية، أم ان حسرته هي التي بالغت، كلما تحركت شفتاه حول القرية، تسري في نفسي قشعريرة  وأدرك انه كلما ابتعد الشخص عن الديار تبقى أطلال بلاده في ثنايا قلبه ومخيلته، وكما قال الطائي في شعره:
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى        وحنينهُ    أبداً    لأوّلِ     مَنزلِ

جدي أوصل الرسالة قبل أن يسلم روحه لباريها، وحنينه للقرية قد إستقر في جوفي وحنيني، وبعد أكثر من 67 عام، لا زلت أنا أحمل هم جدي وحنينه للقرية، وكلما هممت للنوم أشعر أن جدي  يربت بيده على كتفي ويقول إنا عائدون.

نعم يحنُّ الإنسان لأرضٍ لم يرَها ولم يعش فيها قط، كيف لا والحديث اليومي حوله يتحدث عنها، طيرة دندن وفلسطين هي الإرث الوحيد في العالم الذي لا ينتهي وهذا بعد اكثر من 67 عاماً على النكبة.

أنا اليوم في المخيم، أحبه كثيراً لأني كلما خرجت منه أشعر أنّ قضيتي انتهت، فالمخيم يجدد لي الروح في العودة للفردوس المسلوب، فحياته القاسية هي التي تجعلني أتمسك به كي لا أتخلى عن قضيتي، ولأن مخيمي يوجد داخل فلسطين فنحن نتحمل الحياة رغم المقومات البسيطة، والسبب اننا لا نريد الابتعاد أكثر عن قرانا، ومهما سمعت الكلام المسيء بحق المخيم وأهله لن آبه به، فالغريب لا يكرم إلا في بلده، ونحن غرباء لمدة قصيرة، وسنعود ونُكرم في وطننا وبلدنا حين نستردها بالقوة كما خسرناها بالقوة.

لا تستغربوا كلامي فانا عشته بكل معانيه، ولم أقسُ على احد منكم في الكلام يا أبناء وطني، لكن هذه الكلمات هي الحقيقة التي لا يحب سماعها المواطنون، وهي القصة التي يخاف سردها الكثيرون.