وجوه.. ليلة العرس الحزين!

بالعربي: كتب سيد اسماعيل

زهير يا صديقي، لم حدث كل هذا معك؟ ربما لأننا حسدناك ذات يوم؟

سامحنا يا صديقي لو كان حسدنا السبب!

■ ■ ■
الحب! هذا الشعور السحري، له طعم مختلف تماماً في مخيمنا: تسترجع ذكريات سنوات المراهقة وخفقات القلب كلما ذكر اسم الحبيب أمامك.

اعترافات الحب الأولى، تبادل رسائلنا سراً ووعود الزواج التي تبخرت مع ضغط أهل حبيبتك الأولى كي تقبل بـ"العريس المقطوع وصفه" (الذي لا مثيل له)، بكل ما توفر له من إمكانيات. ليالي الاستماع لأغاني الحب الحزينة، قديمها وحديثها، بحثاً عن السلوى والسلوان. قليل من البكاء سراً. كثير من استرجاع الذكريات الحلوة التي أصبح كل منها بمثابة سكين يذبحك بقسوة. أن تبحث عن وجه حبيبتك الأولى في وجه كل فتاة تقابلها. تتزوج لاحقاً بطريقة ما وتنجب أطفالاً. لكن الحب يبقى للحبيب الأول مهما تتابعت السنون والعقود.

■ ■ ■
كان زهير أمين سري، تماماً مثلما كنتُ موضع ثقته. كنا لصيقين منذ الصغر كالظل وصاحبه. تقاسمنا طعم السيجارة الأولى سوية والتشاور في كيفية تنفيذ "مصايبنا وعمايلنا السودا"، على غرار إفساد عجلات سيارة لأستاذ الجغرافيا كان يضطهد "زهيراً" بلا سبب واضح أو التغطية على تسللي أنا من المدرسة في بعض الأيام بعد تسجيل الحضور والغياب، أو أن نضرب سوية فتى مشاغباً أساء لي أو له. تشاركنا محاولات الدراسة الثنائية فيما بيننا والتي كانت تنتهي بعد نصف ساعة-على أقصى تقدير!- إلى الحديث عن أوضاع حياتنا ومشاكلنا الشخصية وأسرارنا لتبقى الكتب والدفاتر المدرسية فاغرة أفواهها محتجة على وضعيتها تلك وكأنها "شهود زور" على أننا نراجع دروسنا!
بمعجزة ما نجحنا وتجاوزنا عقبة "التوجيهي" (الثانوية العامة أو البكالوريا)، لتفرق الجامعة فيما بيننا في التخصصات الجامعية، وإن بقينا متلاصقين قدر الإمكان دون أن نمل الحديث والمشاورات حول تجاربنا ومشاكلنا العاطفية التي واجهها كل منا مع حبيبته. والشهادة لله كان زهير فتى ألمعياً و"مستشاراً" معتمداً للمشاكل العاطفية لكثير من أقراننا من شباب المخيم، وليس لي أنا وحدي فحسب! كما أنه كان كاتب رسائل غرامية لا يشق له غبار وخبيراً في تحليل شخصيات حبيبة كل منا. آخ يا زهير! لو تركت مجال دراستك وافتتحت مكتباً لـ"الاستشارات العاطفية" لأصبحت من أثرياء المخيم اليوم!

كانت مشاعر كثير منا تجاهه تتراوح ما بين الغبطة والحسد، ليس فقط لقدراته "الجبارة" في فهم شخصية المرأة وإدراك مفاتيحها بالدرجة الأولى فحسب، بل لمعرفتنا أيضاً بقصة حبه: لقد فاز بأجمل فتاة يمكن أن تراها عيناك، برغم شراسة المنافسين ومكائدهم المستمرة، ورقابة أهلها الشديدة، خاصة أمها التي كان خليقاً بها أن تعمل في "السي آي إيه" لا ربة للبيت! وبرغم كل المعوقات، استمرت قصة حبه معها لسنوات، قبل أن يتمكن من خطبتها، بعد صعوبات تتضاءل أمامها الصعوبات التي واجهها "أوديسيوس" بطل ملحمة "الأوديسا". لو كان "هوميروس" أحد سكان مخيمنا لكتب ملحمة عنك يا زهير وأسماها "زوهيريسا" تيمناً بك!

لا أنسى جلساتنا المشتركة، وقد جلسنا متقابلين على "فرشتين اسفنج"، ومنا كل يتكئ على وسادة إسفنجية رخوة، ونرتشف القهوة على مهل كأنها طقوس مقدسة، فيما نحن نطلق دخان سجائرنا في سماء الغرفة إذ جمعت سماؤنا الصغيرة ضباب سجائرنا وأحاديثنا المسائية الطويلة وآمالنا التي كنا نتمنى تحقيقها. قال لي حالماً وينظر إلى نقطة مجهولة: "أتعرف يا صديقي؟ أنا لا أعتبر أن الشمس أشرقت إلا إن أرسلت هي رسالة تقول فيها "صباح الخير"! ولا أعتبر الليلة سعيدة إلا إن تمنت هي في رسالتها بأن تكون كذلك. السعادة بالنسبة لي هي أن أرى وجهها سعيداً دوماً. متعتي أن أكون أباها وأخاها وابنها وصديقها وحبيبها وخطيبها وزوج المستقبل. ضع ما شئت أيضاً من الصفات بعدها..".

■ ■ ■
حلت ليلة عرسه أخيراً. كان وجه زهير منيراً كنجمة شابة باشرت عملها حديثاً في إنارة الكون، مرتدياً سترة سوداء زادته وسامة. سبقتها طبعاً "سهرة الشباب" وممارسة طقوس "الدبكة" إلى ساعة متأخرة من الليل. كان صبوراً على مزاح "شلتنا" الثقيل ومبتسماً بتسامح طوال الوقت. بعد غداء العرس، خرج موكب سيارات العرس من المخيم إلى بيت أهل العروس، ومن ثم انطلقنا جميعاً بعدها إلى صالة الأفراح التي شهدت ردهاتها الزفاف. بقيتُ أنا في الخارج مع سيارتي "السوبارو" متكئاً بجوارها مع صديق آخر، ندخن سجائرنا ونثرثر حول أحوال المخيم، بانتظار أن ينتهي الأمر على خير. لكن ذلك لم يحدث أبداً.

فوجئنا بسماع شجار قصير، أعقبه لغط استمر لدقائق أعقبه رؤيتنا لمشهد والد العروس وهو يجر ابنته بقوة، بعد أن دخل "صالة الأفراح" وانتزعها من جوار عريسها بالقوة!! وبدأنا نحن وآخرون نصرخ بالعبارات التي تقال في هذا السياق على غرار: "يا جماعة الخير وحدوا الله"-" يا عمي استهدي بالله. اصبر بس!". "ردك الله يا عمي. بالله ايش في؟ ايش صاير معكم؟!". ولكن الأب تحول فجأة إلى قطعة من الغرانيت: لا تستمع من أحد ولا تكلم أحداً. كان عريس ابنته يحاول اقناعه بالعدول عما فعل دون جدوى، خاصة وأن العرس كان على وشك الانتهاء فعلاً. ولكن: لا حياة لمن تنادي.

عاد الأب بابنته، فيما هرعتُ أنا إلى صديقي الذي.. الذي.. المعذرة. لقد خانتني الكلمات ولم أجد ما يصف حالته الكارثية تلك. سألته عما حدث فقال لي إجابته الغريبة: "والله ماني فاهم إشي يا صاحبي! كنت قاعد انا والعروسة في كوشة العرس والأمور تمام بفضل الله. ما لقيتو إلا دخل دخلتو العاطلة هاديك وراح ساحب البنت من جنبي وطالع برا بدون ما يحكي معي ولا كلمة! صرت أترجى فيه يفهمني إيش القصة؟! ليش عمل هيك؟؟ ع الفاضي!".

■ ■ ■
في اليوم التالي عرفنا السبب: حدثت "طوشة" كلامية بين شقيق العريس وشقيق العروس، أدت إلى تلاسنهما، فما كان من والد الآخر إلا الانحياز لابنه فيما جرى وتتطور الأمور سريعاً، يقدم الأب على فعلته، ويقود ابنته إلى البيت، بشكل لم أر أو أسمع عن مثيل له سوى في الأفلام الهندية! وفي اليوم التالي أرسل الأب "جاهة" (وفداً من وجهاء عائلته) تمثله، كان مضمون رسالتها بأنه يريد طلاق ابنته ولم يعد يريد ارتباطها بعائلة زهير بعد اليوم، مرسلاً معها المهر الذي دفعه صديقي الشاب!

فشلت محاولات الحل دون جدوى على مدى أسابيع. ولأول مرة رأيتُ زهيراً منهاراً إلى هذا الحد: كان ذابلاً كزهرة عجوز، يدخن بشراهة سجائره، فيما حفر القلق والأرق والهموم آثارها على وجهه. قال لي بكل اليأس الذي غمره: "فش فايدة يا صاحبي. أبوها رفض كل الحلول ومصر على الطلاق. ما فيه أي خيار تاني. وأهلي قالولي: "اللي باعك بيعه وبدكاش هيك نسب". صدقني راسي بدو يتفجر ومش عارف ايش أعمل..".

جاء المشهد الأخير لقصة حبهما في المحكمة الشرعية كي يكتب القاضي عقد الطلاق. مشهد لن أنساه ما حييت: توجه القاضي الشرعي إلى الفتاة بالسؤال عما إذا كانت راغبة بالطلاق منه. بقيت صامتة منكسة رأسها دون أن ترد. كرر الرجل سؤاله لينهرها والدها بقسوة: "ردي ولي على القاضي!". أجهشت بالبكاء وغطت وجهها بكفيها. هزها أبوها من يدها بقسوة: "بأقولك ردي ولي وتحرجيناش قدام العالم!". طلب منه القاضي بأن "يطول باله". هدأت قليلاً ثم قالت الكلمات التي طلبها منها والدها بصوت مرتجف. انتهت هذه المأساة أخيراً ولكن "على الصعيد الرسمي" فقط.

■ ■ ■
بعدها بسنوات، كنتُ أجلس في بيت "زهير" وهو يداعب ابنته البكر "سلمى" ابنة الأعوام الثلاثة. من نافلة القول إنه قد تزوج فتاة أخرى بخلاف حبيبته الأولى. كاد أن يشعل سيجارته، لولا أنه انتبه لوجود ابنته فطلب منها أن تخرج من غرفته: "يللا روح لماما يا عيني". قلتُ له فجأة: "لساتها بتيجي ع بالك؟". كان يعرف ما أقصده بالتأكيد. قال لي وهو يشعل سيجارته على مهل ثم ينفث دخانها ببطء: "عمرها ما راح تغيب من بالي لحد ما أموت..".

المصدر : (الأخبار)