ما بين الأخلاق والسعادة

بالعربي:  كتبت فرح الشريف

نمارس في حياتنا أفعالاً أخلاقية لا نبادر إلى تفسيرها بشكل تلقائي أو تحليلها لمعرفة دوافعها الأساسية. ذلك لأن الأخلاق صفات جوهرية في الإنسان، وهي تشكل ضرورة لنظام الحياة الاجتماعية. فلا يوجد عادة ما يدفع بالإنسان العامي أن يسأل عن الأخلاق أو قيمتها باعتبارها طبيعية. بمعنى أن القيم الأخلاقية التي تقوّم سلوكه هي معطيات بديهية.

تعلم الإنسان وعاش على أساس أن الفعل الأخلاقي واضح ويفترض بأن يؤتى تلقائياً بعتباره في الفطرة الطبيعية للإنسان، وعليه يكون الخير متوقعاً من الإنسان والدوافع من وراء هذا الخير لا تشكل أهمية كبيرة من الأساس ما دامت النتيجة المرجوة هي ذاتها. الأمر ذاته مع ما تعلمه الإنسان واكتسبه من قيم باعتبارها شر، فهي شر.

مبدأياً حتى يتم الحكم على فعل بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي يقتضي وجود القدرة على الاختيار. فلا يمكن وصف فعل معين تم الإقدم عليه بأنه غير أخلاقي إن كان صاحبه لا يملك حرية الاختيار، لأن الحكم حينها يكون بلا قيمة. يوضح الغزالي ماهية الإرادة والقدرة على الاختيار فيقول "إذا انبعثت الإرادة لفعل ما يظهر للعقل أنه خير سميت الإرادة اختياراً مشتق من الخير، أي هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير".

فالخير هو المقياس الذي نحكم من خلاله على قيمة اختياراتنا وبالتالي أفعالنا. وحتى فيما يتعلق بالأوامر الإلهية، فإن الاختيار مبدأ أساسي يقتضي توفره حتى يُثاب أو يعاقب الشخص عليه. فلا أمر بغير قدرة، ولا قدرة بغير إرادة، ولا إرادة بغير اختيار كما يقول طه عبدالرحمن.

رغبتي في كتابة هذه التدوينة أتت من رغبتي في تحليل ما نقوم بممارسته نحن معشر البشر، وبالأخص فيما يتعلق بما نوسمه بأنه أخلاقي وبواعثه التي تستحق التفكير.

حيث تدخل فيها سيكولوجية النفس البشرية بشكل مثير للاهتمام لتنبهنا بأن ليس كل ما هو على السطح كما يبدو. لا أزعم في هذه التدوينة بأني سآتي "بما لم تستطعه الأوائل" ولكن سأعرض رأي بعض الفلاسفة وسأقارن بينهم وسأورد آرائي أنا، وربما في نهاية التدوينة أكون قد استنتجت رأياً جديداً يرضي فضولي.

هل كل فعل أخلاقي غايته أخلاقية؟ أم أن السعادة هي الغاية الملازمة للفعل الأخلاقي؟ هل يرتبط كل من السعادة والخير بالأخلاق؟ هذه الأسئلة تتبادر إلى ذهني لحظة تفكري بأي فعل خيّر أو أخلاقي أقدم عليه. مشاعر الرضا والامتلاء والسعادة، هي جملة المشاعر التي تشعر بها عند قيامك بفعل أخلاقي، وهي دافع مهم وراء قيام الفرد بهذا الفعل. هذا ما كنت ألمح فيه طيف نفعية، حيث تظهر هنا المصلحة الخاصة التي لا علاقة لها بالأخلاق في هذه الحالة، وهذا ما أظن أن صادقني عليه "كانط" عندما قررت أن أبحث في الموضوع.

سأضرب مثالاً لتوضيح ما أرمي إليه. إذا كانت مساعدتي للغير تبعث فيّ الراحة والرضا عن الذات، فإن سلوك كهذا يفترض به أن يكون أخلاقياً لا يعتبر أخلاقياً من وجهة نظر "كانط" ما دام الدافع إليه هو دافع نفسي (سيكولوجي) وهو الرغبة في الوصول إلى نوع من أنواع السعادة والرضا عن الذات.

فلا يمكن أن يعتبر سلوكاً أخلاقياً إن لم يكن الدافع هو "الواجب الأخلاقي"، نؤديه دون أن ننتظر جزاء نجنيه من ورائه. أما ما دون ذلك لا قيمة أخلاقية له كما يرى "كانط".

أثنى المؤرج والفيلسوف الألماني"فريدديش شيللر" على الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" ولم يخفِ إعجابه. الجدير بالذكر بفكرة نظيره هذه حين قال بأنها "تتميز بصلابة تفزع منها جميع العواطف الرقيقة وقد تغري ضعاف الفهم بسهولة على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد الرهبان"،
حيث إن قانون الواجب هو قانون يضعه الإنسان لنفسه، بدون سلطة خارجية عليه، تظهر نبله وإنسانيته. وعلى الطرف الآخر تجد نيتشه وفلسفته الأخلاقية التي تنسب الأخلاق إلى الأقوى متجاهلاً الفعل ذاته أو ما قد ينتج عنه. ذلك أن مقياس أخلاقية الفعل عند نيتشه هي ما يسميها بـ"إرادة القوة" والشعور الذي تولده هذه الإرادة ويستشعره الشخص في ذاته.

عندما نتحدث عن الفضيلة تأتي السعادة بشكل تلقائي لتكون مصاحبة لها. وعند التفكير نجد بأن حصول السعادة وغياب الألم، سواء كانت سعادة لحظية أو لاحقة، هي الدافع من وراء الإقبال على الفضيلة. في حين أن "كانط" غير معجب بهذه النظرية، يأتي أرسطو ليخالفه. فأرسطو يؤمن بأن السعادة هي الغاية المطلوبة، جاعلاً من الفعل الأخلاقي الوسيلة المؤدية إلى السعادة لكونها الغاية النهائية المطلوبة لذاتها. وعلى طريق مشابهة، يؤكد روسو بأن لا شيء أحب إلى النفس من الفضيلة؛ لأنها هي الوسيلة الوحيدة ليعرف الإنسان ذاته، وهي السبيل الوحيد للسعادة، إن لم يقم بها صاحبها ظل شقياً باستمرار.

هذه الفلسفة الأخلاقية هي النقيض للفلسفة النفعية التي يقول بها فلاسفة هذا المذهب أمثال "هيوم" و"بينثام". فيكون مقياس الفعل الأخلاقي عند أصحاب هذه الفلسفة هو مقدار النفع الذي يجلبه، فكل ما هو سبب لسعادة الإنسان ولذته هو خير، وكل ما من شأنه أن يتسبب في تعاسة الإنسان أو ألمه هو شر بالضرورة. وهو القياس نفسه الذي تخضع له الفضيلة والرذيلة من وجهة نظرهم.

منذ خلق الإنسان على هذه الأرض، وهو في رحلة بحث مستمرة عن السعادة، روحية كانت أو حسية. تنوعت الوسائل ولكن الغاية واحدة. نحن في رحلة بحث دائمة عن السعادة، ولا شك بأن الفضيلة على علاقة وطيدة بالسعادة الروحية.

وإن كانت الأخلاق إضافة إلى أن وجودها يرفع الإنسان ليبلغ درجة عليا من التحضر والإنسانية وانعدامها ينتج عنه عكس ذلك، فليس من الضروري أن تكون الأخلاق سبب للسعادة. ذلك لأن وجود الإرادة الخيرة التي تؤدي بنا للقيام بهذا الفعل الأخلاقي أو ذاك، ومخالفة الشهوات التي قد تحيد بالنفس عن هذه الإرادة هو ما أراه مصدر السعادة الحقيقية.

المصدر: (هافنغتون بوست)