وأد البنات: أجاهلية ماتت أم تحيا إلى اليوم؟

بالعربي: كتبت فضيلة الظهوري

 في أحد مساءات يوم الأربعاء الشتوية بين دروس التجويد والتلاوة الدافئة، عبرت أذنيّ آية جليلة حتى وصلت وهزت قلبي وملأت عقلي وروحي بالتعجب والاستغراب، في سورة التكوير يقول الله تعالى :﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ  ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ صدق الله العلي العظيم.

فقلت لنفسي: لم يذكر الله سبحانه وتعالى "الموءودة" في منتصف حديثه عن أهوال يوم القيامة؟

أيها القارئ حتى نجيب عن السؤال لنعش معاً أحداث سورة التكوير أولاً، أحضر صورة الكون في عقلك الآن وتخيل معي الآتي، الشمس تتكور ويذهب ضياؤها، ويصبح العالم الأرضي في ظلام حالك وسواد دامس، والنجوم البعيدة التي تمدنا بضيائها كذلك تنكدر وتتناثر في كل مكان، وإذا ما انتقلنا إلى حالة الأرض، رأيت الجبال الثوابت الثقال، تنسحق وتصبح هباء منثوراً، والناس مفزوعون في كل بقاع الأرض ومن شدة الفزع تتعطل العشار ويترك الناس ما بأيديهم من أعمال، ثم تحشر الوحوش -أي الكائنات- في ميدان، إما تموت أو يفعل الله بها ما يشاء، والناس حيارى يتجهون نحو البحار للاستنجاد فإذا بها نيران مشتعلة، ثم تُزوج النفوس حسب الصفات المشتركة، ويبدأ الحساب بين السؤال والجواب، ومن بين تلك الفئات فئة مظلومة، لا يعلم عنها أحد ولم يسمع بها أحد يطلق عليها "الموءودة".. ففي ذاك الميدان لها مكان!

فمن هي تلك الموءودة ؟ وهل ما زالت موجودة؟

إذا رجعنا لعصر الجاهلية قبل الإسلام، الموءودة هي المولودة التي دفنت حية تحت التراب، وهذه الجريمة الشنيعة مورست لدى بعض قبائل العرب كبني تميم، وربيعة وكندة، يئدون بناتهم ليس لخشية الفقر والإملاق فالوأد كان معروفاً لدى الأغنياء وليس مخافة العار وضياع الشرف كما هو متداول في فهمنا، وإنما الحقيقة المرة لهذه الفعلة المأساوية، هو اعتقادهم المشرك الذي يقول إن الذكور هم الفئة الطاهرة النقية التي لا يشوبها شيء، وإنهم ينحدرون من آلهتهم، وعلى غرار ذلك إيمانهم أن الإناث رجس ودنس ونجس ينتمون لله عز وجل -والعياذ بالله من الشرك- حتى الملائكة قالوا عنها إناثاً وأنهن بنات الله عز وجل ـ حاشا لله تعالى ـ وهذا يتلخص بقوله عز وجل في سورة النحل: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) ﴾

والذي يؤكد هذا المذهب حقيقة أنهم لم يعتمدوا الذبح بل الوأد في التخلص من فتياتهم؛ حيث كانوا يحفرون حفرة للمرأة الحامل في مخاضها ويعمقونها فيه، فإذا جاءهم ولد فرحوا به واستبشروا وأبقوه حياً، وإذا جاءتهم بنت اسودت وجوههم حزناً لسوء البشرى فحثوا عليها التراب وهي حية فتموت مختنقة من ثقله عليها، وكانت قريش تعمل هذه المقبحة بعيداً عن الديار والمنازل في جبل يدعى أبا دلامة وذلك اعتقاداً منهم أن الموءودة ستدنس ديارهم برفاتها؛ لذلك لا يريدون أي أثر لها قرب مساكنهم.

فهل وأد البنات ظاهرة انتهت في الجاهلية أم ما زالت قائمة إلى الآن؟

نظرتي التأملية للآيتين العظيمتين تشير إلى أن الوأد في هذا الزمان ما زال موجوداً بل تعددت أشكاله وتنوعت مظاهره وهو ما أسميه بالوأد الخفي، فالأشنع من أن تُدفن البنت وهي لا تفقه أي شيء، هو أن تُدفن وهي تفقه كل شيء، فكل أمر يثقل عليها ويخنقها وهي حية، والذي يعمل عمل التراب المحثي على الوليدة يعتبر وأداً لها، فالمجرم أو الوائد يتخذ صوراً شتى، الوائد الذاتي أن تكون الفتاة نفسها هي الوائدة بأن تستسلم للظروف والمجتمع وتخضع لهم ولا تناضل البتة من أجل حقوقها وطموحها فهي في نفس الآن الوائد والموءودة، يمكن أن يكون الوائد أهلها، ويتمثل بالأب والأم والإخوة والأقارب ويئدون فتياتهم بحجة "أنت بنت!" ويستنقصون من قدراتها كإنسان ويستنقصون من إمكانياتها كامرأة فالأهل وائدون وهي موءودة، ويمكن أن يكون الوائد المجتمع نفسه فيئد المرأة بعباراته قولاً "أنت المرأة العورة" ، "أنت المرأة القاصر"، "أنت المرأة العيب" ، "أنت يا ناقصة عقل ودين" أنت وأنت إلى آخره من كل أنواع الأتربة التي تحثى عليها فيئد إمكاناتها الفكرية والعقلية والذهنية والإبداعية وكذلك يئد استقلاليتها وحريتها فالمجتمع هنا وائد وهي موءودة، ألا يعلمون أن المرأة هي نصف المجتمع وتلد النصف الآخر فهي المجتمع كله؟ فمن وأد فتاة وأد أماً، ومن وأد أماً وأد جيلاً ومن وأد جيلاً وأد أمة ومن وأد أمة وأد البشرية كلها!

لكن، ماذا قال إسلامنا؟

جاء الإسلام يبطل هذه الجريمة وجاء بنوره وبهديه يقيم العدل ويرسم للمرأة كيانها الحر كإنسان ويحفر في دفتي القرآن شخصيتها المستقلة ويحررها من قيود العبودية والتبعية وفك كل الجرائم التي ترتكب بحقها، وضمن لها الشارع حقوقها كإنسان أولاً مساوٍ لا يقل عن الرجل البتة بل كرمها وأعزها بطرق شتى! ورفع الإسلام من قدرهها من سلعة تباع وتشترى في الجاهلية لإنسان يحترم ويكرم، وعدل بينها وبين الرجل وجعل كلاهما خليفته على الأرض وكلاهما ملزم بإعمار الأرض، الذي يكون بإعمار الإنسان عليها، وقال الله تعالى في سور التوبة: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) ﴾، فهم أولياء بعض يشدون أزر بعض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولاً حتى إن هذا الواجب ذكر قبل فريضتي الصلاة والزكاة لأهميته العظمى في بناء الإنسان وإعماره على الأرض، ورسولنا الكريم ﷺ يؤكد هذا العدل الإلهي بقوله: "إنما النساء شقائق الرجال" (رواه أبو داود) بمعنى أن النساء والرجال سواسية في الحقوق والواجبات والعبادات والجزاء.

فكل من الرجل والمرأة لهم أدوار تكاملية لبناء المجتمع والأمة والعالم بأسره، لكن يبقى الأسى والحزن والغضب لله تعالى على الكم الهائل من قدرات وإمكانات المرأة المهدرة بسبب النظرة الجاهلية لها، ليت يكون لنا سجل لنوثق جريمة الوأد المرتكبة في وقتنا الآن وكم سنفجع بمعدلاتها المرتفعة التي في ارتفاع مستمر يوماً بعد يوم في مجتمعاتنا -إلا من رحم ربي- وكل ما نراه من انهيار لأمتنا أحد أسبابه تهميش المرأة وعدم احترامها وتعطيل دورها وإهمالها ولم ولن ينهض عالمنا الإسلامي إلا بنهضة المرأة المسلمة، عندما تستعيد كيانها المستقل وحريتها في القرار وتستعيد كرامتها واحترامها كإنسان وتوفر الفرص لها بمختلف المجالات عندئذ سيزدهر عالمنا الإسلامي، ولن تنهض المرأة إلا من خلال أختها المرأة فعليك أيتها الأنثى أن تكتشفي هويتك المخبأة عنك، هويتك التي شرعها ربك لك وتعلمي ذاتك وغيرك من النسوة هذه الحقيقة، وهذه القضية ليست فقط قضية المرأة وحدها بل هي قضية الرجل كذلك بل وقضية المجتمع بأسره فمساندة الرجل الصدوق النبيل واحترامه المرأة والعمل معها لطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لبناء الأرض سيحقق معنى نهضة المرأة بل نهضة الأمة والعالم بأسره فكفانا وأداً لهذه الإمكانات العظيمة.. كفانا.

فتأمل أيها القارئ كيف اختتم الله تعالى سورة التكوير قائلاً:﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾ صدق الله العظيم.

هل ستستجيب لهذا الذكر؟ هل ستستقيم لنصرة الموءودة؟ هل ستقف مكتوف اليدين؟ أم ستمد يد النصرة لها؟ في ذلك الميدان ستُسأل الموءودة بأي ذنب قتلت؟ فهل ستذكرك؟ وقيل في رواية أخرى الموءودة ستسأل بنفسها بأي ذنب قُتلت؟ فهل ستشير إليك؟ في ذلك الميدان، في ميدان الحساب، السؤال سيطرح لك في كل الأحوال: ماذا فعلت مع تلك المظلومة.. الموءودة؟

المصدر: ( هافنغتون بوست)