هنا في القدس

بالعربي: كتب: طارق عسراوي

أذكرُني طفلاً حينَ وقفتُ مأخوذاً على درجات باب العمود للمرة الأولى.

كان أستاذ اللغة العربيّة يزمُّ شفتيه، وهو يؤكد لنا - في تلك الرحلة المدرسية - أن باب العمود حمل هذا الاسم نسبةً لعمود من الرخام الأسود علّقت عليه لوحات تدلل على المسافات التي تفصل المدن عن القدس، يومها تأمّلنا تلك الدرجات التي تفصلنا عن قوس السماء المرتفع، وتيجانُ السور فوق الباب تمنحه مهابة الحصنِ، وبعض جنودٍ غرباء في حوض الباب الصغير يقفونِ خارج المعنى، ويكدرون تدفّق الحياة في أوردة المدينة.

بعدها فصلتني مسافة الانتفاضتين وغربَةٌ ساخنة عن صوت الأمهات يفترشنَ مداخل البلدة بما نما في أصواتهنَّ من خضرة البلاد وخيراتها، وظلّ الحنينُ صورة معلّقة في صدر البيتِ للبابِ والقبابِ والأجراس، وسرتُ مرّاتٍ ومرات بحنجرة تقدحُ بالبرقِ خلفَ جنائز المدينة وهي تشيّع أبناءها مسيحاً، مسيحاً .. يضيئون ليل المدينة بقناديل أرواحهم، وصار الجنود - أولئك الغرباءُ - جداراً، و حاجزاً، وموتاً، وغربةً، وظلّت القدسُ صورة تكبُرُ، وبقيتُ أتبعها مثل كرمةٍ  تصعد سطح البيت بغية عناق شمسها الدافئة.

مردداً ما قاله أستاذ اللغة العربية، قلتُ لطفليّ قبل صيف عند تلك العتبات: هنا باب العمود، قبل أن أتركهما يلحقان نداءات البخور، والزعتر في خان الزيت، حيثُ تعبق المدينة فتنتها في صدر الصغار فيكبرون مقدسيينَ رغم لعنة البارود، وما نتأ من سياجٍ فوق خصر البلاد.

هكذا نركُل المسافة، ونستفيئُ في ظل العقبات، والأقواس، فتكبر القدس في الأنفاس.

بعد أن صعد الصغيرانِ من أسفل الباب إلى سطح السور، تساءلا عن غرب المدينة!

- ما تلك البيوت يا أبتي ؟

تلك غرب المدينة، ولكن إحذرا، لا غرب في هذي المدينة، كُلُّها شرقيّة، إياكما أن تُمكرا في هذي المدينة بالجهات.
- وما ذلك الوهنُ هناك ؟

ذاك خطُ الهدنة المرتجفِ من شمسٍ تشقشِقُ فجرها من عيونكما، هنا يا ولديّ يَكونُ السقوطُ عُلوّا وارتفاعاً، فلا تخشيا ارتفاع السور، ولا تخشيا فيها السقوط.

ها أنا هنا مرّة أخرى، أيُّ ارتباكٍ يصيبُ القلب كي أستطيعَ القولُ : إنني في القدس.