وكر الاكتئاب!

بالعربي: كتبت هديل عواد

جزء من المطلوب منك خلال السنة الماضية هو أن تقضي واجباً في المشفى، بعد وقت الدوام تبقى في المستشفى، تتابع حالات وتتعرف على أخرى.

أكثر الأمور فائدة هو أن تبقى في غرفة الطوارئ، احتمالية التعلم هناك تفوق أي مكان آخر، فترى صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، وشيباً وشباناً.، غالباً سترى وجعاً في الرأس، وجعاً في البطن، وجعاً في أي مكان آخر فيعطيه الطبيب مسكناً ويرسله للمختص الذي سينظر في حاله وموضع علته ويحاول أن يزيح عن جسده السبب.

في إحدى المرات جاءت امرأة في متوسط العمر، كانت هزيلة بما فيه الكفاية حتى لا تقوى على حمل جسدها فارتأت أن تدفعها ابنتها على كرسي متحرك. كانت لا تتحدث، صامتة تأبى الرد، مرهقة حد السماء، تبكي وجعاً لا تعلمه، وتذرف دمعاً لا يخفف من وجع الروح شيئاً، ولكن عليه أن يهطل لا محالة.

عندما عُرضت حالتها على الطبيب وسأل سؤالين أو ثلاثة، علمنا أنها مريضة بالاكتئاب، تتناول دواءً يومياً له، فقدت توازنها اليوم وانهارت بشدة، بكت كثيراً جداً، حاولت أن تتخلص من إحساس الميّت بكل الطرق ولكن الفشل أبى أن يفارقها، وعدها الطبيب خيراً، ومن ثم أرسلها لتعطى أكسجيناً تستنشقه ظناً منها أنه دواء فتهدأ وترحل.

دار حوار مزعج بيني وبين الطبيب وخلاصته كانت أنها تمثل.

في اليوم التالي كانت نفس المريضة قد أدخلت قسم الجراحة لأنها كسرت كل ما في البيت، كشرت عن أنيابها، وجاءت بجروح استدعت تدخلاً جراحياً.

لا بأس، سترى في عالمنا الكثير من التشكيك في جدية مرض هؤلاء، سترى طبيباً يخبرك أنّ الطب النفسي سيئ، سيئ بمعنى أنه خرب عقول العباد، لم يصبح سيئاً لسوء استخدامه ولكنه سيئ لكونه سيئاً، وكأن هذا العلم لم ينقذ روحاً، ولم يعالج نفساً، وأقل الإحسان أنّ الكثير عرفوا ما بهم، عرفوا أنّ الغضب والصراخ ليسا من شيمهم، عرفوا أن المتعة حق لهم، أدركوا أنّهم ليسوا هم، هو دخيل زارهم لبعض الزمن ولنأمل بأنّه سيشد رحاله فيرحل.

حتى لا يظنّ بأني أنوي أن أزيد تجارتي بالترويج للطب النفسي ولأكتسب مرضى كثيرين، لا أنوي ذلك، وطب الأطفال جلّ أمنياتي.

قد لا تسنح لي الفرصة بالتعامل مع مرضى كبار يحتاجون إلى مجهر يريهم جمال أنفسهم وما عكر صفو أرواحهم، ولكن هذا البلاء ليس حكراً على عمر دون آخر.

طفلة في الثامنة أو التاسعة من عمرها كانت قد أتت ليُسحب لها دم لتقوم بالفحوصات المناسبة حتى تبدأ علاج الاكتئاب، كان من الممكن أن أخبرها صغيرة أنتِ يا صغيرتي، ما الذي أتى بك إلى وكر الاكتئاب ولكني أعلم أنّ له أسباباً لا نعلمها، أموراً لا ندركها وتفاصيل نأبى أن نصدّقها.

سأكون كاذبة إن أخبرتكم أن كل حزين مكتئب، سأكون أكثر كذباً أن أخبرتكم أنّ معرفة الذي يعانون هيّنة، سأكون كاذبة إن تمنيت أن يكون أحد في هذا الموقف، ولكن من حسن الحب للآخر هو أن تتمنى أن تعرفه متى ما ابتلي به حتى لا يجوب القاصي والداني وهو يحاول أن يجد لعلته علة يعالجها فتنقضي عنه ويتغافل عن السبب الأساسي ويعرض عنه.

باختصار، الاكتئاب اكتئاب، لا يزيّنه حديث ولا يخفف وطأة الكلام عنه جمل وعبارات، هو كما وصفته أنا سابقاً سرطان، يبدأ من حيث لا تدري، يقتات على روحك، يدمرك رويداً رويداً، تكاد لا تعي كيف بدأ وكيف سينتهي، يؤذيك الحديث عنه، يؤذيك تمسكه بك، وتؤذيك فكرة التخلي عنه.

هو شبح في النوم تتقلب يميناً ويساراً محاولاً العدول عن تسلطه، هو شبح بينك وبين طعم الطعام، هو شبح يقتلك لوحدك صباحاً، يقتلك لوحدك مساءً ومن بعدها يقتلك بين الأنام، تغدو جثة ميتةً لا تكمل نشاطاً ولا تعرف متعة ولا تهتم بشيء.

هو سيئ بهذا القدر، نعم هو سيئ وقد يكون عند البعض أسوأ من هذا إن كان في هذه المعركة يقاتل لوحده، دون صديق يتفهم أو قريب يحاول أن يفهم. ومع ذلك، فإن الأسوأ على الإطلاق هو أن تبقى مكتوف اليدين تأبى أن تفعل شيئاً خوفاً من وصمة اجتماعية أو الخوض فيما لا ندرك.

هنا تضطر أن تستخير بالله وتمضي في الحل الوحيد المتبقي لك، تسأل من يعنيه الأمر، تثق بالله، تدعو كثيراً، تكمل المشوار كمن لا طريق آخر لديك وتفعل ما بإمكانك أن تفعل، فالحياة حق كفله الله لك، فعش هذا الحق كما يرتضي الله، محاولاً أن تصل السكينة الدائمة متجاهلاً الوجع الخفي.

المصدر: (هافنغتون بوشت)