الفتيات النازحات.. قهر يومي بستة آلاف ليرة

بالعربي: كتبت ساندي الحايك

تشق الشمس طريقها بخفة إلى سهل سعدنايل في البقاع. تسابق في استيقاظها المبكر شاحنة "البيك آب" التي تقلّ فتيات نازحات سوريات إلى الكروم. تبدو الفتيات الـ20 كالأخوات، ترتدين لباساً شبه موحدٍ: سروالاً وقميصاً طويلاً وحجاباً فوقه قبعة واقية من الشمس، فوقها منديل طويل يغطي الرأس والوجه كاملاً باستثناء العيون. تحشر الصغيرات اللواتي لا تتجاوز أعمارهن 18 عاماً، أجسادهن في خلفيّة الشاحنة إلى جانب المقصّات والمعاول وأغراضهن الكثيرة.

تتداخل أجسامهن النحيلة في المساحة الضيّقة تلك، حتى يكاد يصعب تمييزهن عن بعضهن. تطول رحلتهن للوصول إلى أحد كروم العنب، وسط تمايل أجسادهن بثقل وانزعاج مع مرور الشاحنة المهترئة فوق "المطبّات" الكثيرة ووقوعها في حفرٍ وبرك مياهٍ آسنة. تُقرر ثلاث فتيات المجازفة، فيجلسن على حافة الشاحنة. يثبّتن أيديهن على عواميد الحديد الصدئة، ويتركن أرجلهن لمداعبة الهواء. تحاول إحداهن التصفيق والغناء في اللحظات الخاطفة لتوقف الشاحنة، مرددةً "مش كل كتاب يا قلبي في الحب ينقرا، وأنا قلت لك ميت مره، أنا لسه صُغيّرة". تنظر إلى صديقاتها وتقول: "فيكن تتخيّلوني سعاد حسني". تضحك الفتيات بعفوية، فيظهرن كأطفال يحاولن اقتناص الفرح الهارب.

بمجرد الوصول إلى الكرم ونقل المعدات من الشاحنة، يُعلن "الشاويش" (المسؤول عن تأمين العمل للفتيات) بدء العمل وانطلاق مسيرة اليوم الشاق. تنكبّ الصغيرات من السابعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً على قصّ أطراف "العريشة" وتقليم الأغصان ولمّ أوراق العنب الخضراء بعد تساقطها أرضاً. تطول الساعات وتستمرّ خيوط أشعة الشمس الحارقة بضرب رؤوسهن كالسياط الحادة. تترجّل إحداهن عن كرسي صغير وقفت عليه لتطال «العريشة»، وتتجه نحو رفيقتها متمتمةً «ما قلتيلي شو صار معك".

لا تكاد تلفظ الأحرف الأخيرة من جملتها حتى تنهرها «أم بشار»، المشرفة على الفتيات في غياب «الشاويش». بلهجة حادة تصرخ بوجهها: «على شغلك يلاّ». لا تتردد الفتاة في تنفيذ أوامر "الستّ"، فهي على الرغم من قسوتها تُمثل «الحضن الأحنّ». تُحاول أم بشار أن تكون العين الساهرة على تأمين حقوق الفتيات، فتطالب لهنّ بأجر إضافي إن عملن ساعات إضافية وتوزع الطعام والشراب عليهن بالتساوي وتفاوض «الشاويش» للاستعانة بهن دائماً وعدم التفتيش عن عاملات من مخيمات أخرى. تعرف السيدة التي حفرت سنواتها الخمسين خطوطاً قاسية في وجهها، أن عمل الفتيات وسط هذه الظروف القاسية ممنوع قانوناً، إلا أنها تبرر "العيال بدها تعيش، لو في غير مجال شغل ما كنا جينا لهون".

من ضمن الفتيات العاملات في الكرم خمس لا تتجاوز أعمارهن الـ10 والـ12 سنةً. حاولت أم بشار اختيار عملٍ غير مضنٍ لهن، إلا أنها لم توفّق في مسعاها سوى في تدبير أمر واحدة منهن. إذ أوكلت لـرحاب (10 سنوات) مهمة تعبئة قارورة من المياه وتمريرها للأخريات عند عطشهن. تعمل الطفلة كالمكوك وبين أيديها العبوة الزرقاء. تتعب، فتفرش جسدها الصغير على التراب، وما إن تجلس حتى يؤنبها "الشاويش" بالقول: «جاية تلعبي هون.. تحركي. يلاّ همّيها».

في أحاديثهن تشكو الفتيات باستمرار معاملة "الشاويش" لهن. بحسب رحاب "تمتنع العديد منّا عن العمل في الحقل بسبب التأنيب المستمر والإهانات"، مضيفةً أن "ما يُجبرنا على المرّ هو الأمرّ منه، لذلك نوافق على العمل ونُجبر أنفسنا على اعتياد الأمر ونقبل قلّة الاحترام حفاظاً على لقمة عيشنا. فمن هو مضطر على إعالة عائلته لا مجال أمامه سوى الرضوخ". صديقتها ندى (11 عاماً) تحني رأسها إيذاناً بموافقتها على الكلام. هي أيضاً اضطرت إلى ارتياد الحقول بدل المدرسة بعدما تزوّج شقيقها البكر وترك منزل ذويه، ثم لحقت به شقيقتها الأكبر لحظة تزوجها بلبناني، فوقع حمل إعالة أفراد الأسرة الستة عليها. تكشف أن والدها "لا يستطيع العمل لأنه لا يملك أوراقاً ثبوتية، فرأت العائلة أنه من الضروري أن أؤمن أنا المصروف اليومي. وكذلك يفعل أخي الأصغر، فهو يعمل حالياً في البناء وينتقل للعمل في الحقل مع بدء موسم حصاد البطاطا".

يتجه معظم أطفال النازحين السوريين نحو العمل في القطاع الزراعي، وهو يُعَد من أنواع العمل الخطرة على الطفل والمجتمع، بحسب ما تكشف مديرة «شبكة عكار للتنمية» نادين سابا لـ "السفير"وتشرح أن "الضرر الاجتماعي يظهر لكون العمل في القطاع الزراعي عملاً موسمياً لا يشعر الناس بضرره المباشر على الأطفال لأنهم لا يرونه باستمرار على عكس العمل في الشوارع والتسوّل. فضلاً عن أنه يؤدي إلى انقطاع الطفل عن المدرسة لفترات طويلة في المواسم، وبالتالي يجعله يتأخر عن رفاقه الآخرين في التحصيل، إلى أن يصل به الأمر لترك المدرسة نهائياً، وهي الظاهرة الأساس التي نعمل على مكافحتها بهدف بناء مجتمع أفضل.

في الكرم، تجني كلّ فتاة 6 آلاف ليرة مقابل العمل ست ساعات (من 7 صباحاً حتى 1 ظهراً)، وإن أرادت العمل دواماً إضافياً من الواحدة حتى الرابعة ظهراً تحصل على ألفي ليرة إضافية، وهو ما تقوم به أغلبهن، ليصل المبلغ الذي تجنيه الفتاة إلى 8 آلاف ليرة في اليوم فقط. في حين أن العُرف المتفق عليه للمعدل الوسطي لمردود الفرد اليومي، يجب أن لا يقل عن 30 دولاراً. هنا، تكشف أم بشار أن «صاحب الأرض الزراعية يدفع 10 آلاف ليرة للعامل في اليوم، إلا أن (الشاويش) يحصل على نسبة منها تُقدر بـ4 آلاف ليرة عن كل عامل». هذا الواقع يدلّ على وجود نوع من الاستغلال الفادح للحاجة لدى النازحين السوريين، فكيف يمكن حماية العامل الطفل من الاستغلال المباشر، في ظل خضوعه لشروط عملٍ مضنية لا تُناسب بنيته الجسدية والنفسية؟

في رأي المديرة التنفيذية لجمعية «بيوند» ماريا عاصي فإن «التخفيف من حجم انخراط الأطفال، ولاسيما النازحين منهم، في سوق العمل، لا يتم إلا عبر توعيتهم على المخاطر الجسدية المتمثلة بمزاولتهم أعمالاً لا تُناسب نموّهم البدني والعقلي ولا مستويات المهارات لديهم، ولاسيما في القطاع الزراعي الذي يُشكل الانخراط فيه ضرراً مباشراً على صحتهم، لناحية تعرضهم لمواد سامة وأسمدة كيميائية، وإجبارهم على استخدامها أو رشها على المزروعات والتعامل مع النباتات السامة مثل زراعة التبغ. فضلاً عن العمل لساعات طويلة في شروط قاسية، كالحرّ أو البرد الشديدين، وغياب الحمّامات ودورات المياه، وانعدام الوجبات الغذائية المنتظمة. بالإضافة إلى المخاطر النفسية جراء الإهانات والعبارات العنصرية أحياناً والاستغلال الجنسي»، كاشفةً أن «عدداً كبيراً من الأطفال الذين يعملون في حصاد البطاطا في البقاع أُجريت لهم عمليات (فتاق) بسبب الجهد البالغ الذي يبذلونه أثناء جمع وحمل كميات ثقيلة من البطاطا.

وتشدد عاصي لـ «السفير» على أن «المحاضرات والندوات ليست كافية إن لم تكن مقرونة بعمل ميداني وحملات مناصرة وعقد اجتماعات مع الأطفال وذويهم من جهة و(الشاويشية) من جهة أخرى». تلك الحملات تنجح حيناً وتفشل حيناً آخر. ففي حالة الطفل علي (11 سنة) كان للحملة دور في إعادته إلى المدرسة. فالشاب جاء إلى لبنان مع ذويه، إلا أن والده قُتل بعدما عاد إلى سوريا. عندها أُرغمت العائلة والدته على الزواج من عمه، فما كان إلا أن قُتل الأخير أيضاً. وانقلبت حياة الوالدة رأساً على عقب، إذ اضطرت المحامية التي خاضت غمار المهنة لأكثر من عشر سنوات في سوريا، إلى العمل نادلة في أحد المقاهي، وعمل علي في الحصاد الزراعي. أما حسين فقد «خطفه» والده من مقعده الدراسي. ذات صباح حضر الوالد متجهّم الوجه إلى المدرسة في «مخيم 007» في سعدنايل التابع لـ «بيوند»، على دراجة نارية. دخل الصف بهمجية وسحب ابنه مؤنباً إياه بالقول: «خلّفتك حتى إتفرج عليك؟». وحين حاول المشرفون ثنيّه عن ذلك أجابهم «إنتو بدكن يانا نموت ونحنا بدنا نعيش».

منذ قرابة العام أطلقت «بيوند» بالتعاون مع منظمة «الأمم المتحدة للطفولة» (اليونيسف) برنامج «لا لعمل الأطفال» لمكافحة الظاهرة، لاسيما بعدما أشار تقرير أعدّته «اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال» و «منظمة العمل الدولية»، نُشر في العام 2014، إلى أن «أكثر من 100 ألف طفل يقعون ضحايا عمل الأطفال والاتجار بهم في لبنان»، كاشفاً أن «لبنان من الدول التي تُسجل النسبة الأعلى في العالم للأطفال العاملين بين 10 و17 عاماً». وعليه، توضح رئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل نزهة شليطا لـ «السفير» أن «نحو 35 في المئة من الأطفال يعملون في القطاع الزراعي»، معلنةً أن «وزارة العمل تُعدّ دراسةً بالاشتراك مع إدارة الإحصاء المركزي وبدعم تقني ومادي من منظمة العمل الدولية بالتشاور مع اللجنة الدولية لمكافحة عمل الأطفال، تتضمّن مسحاً وطنياً شاملاً، تُعلن نتائجها بعد قرابة شهر لتُعطي أرقاماً مفصلةً عن حجم العمالة والعمل بحسب الجنس والجنسية والعمر والنوع والتوزيع الجغرافي».

وتؤكد أن «الوزارة بالتعاون مع الجمعيات والمنظمات الناشطة في هذا المجال استطاعت أن تفرض على (الشاوشية) الالتزام بعدم تشغيل الأطفال ما دون الـ12 سنة شرط أن يكونوا استفادوا من دورات تعليمية أو دروس، تمهيداً لرفع السنّ تدريجياً ليصبح متناسباً مع القوانين اللبنانية التي تُحظّر عمل الأطفال ما دون الـ16 سنة».

التشريعات الدولية؟

تلعب مؤسسات المجتمع المدني الدولي والمحلي دوراً أساسياً في مساندة عمل الوزارات وتجنيد الطاقات لرعاية أطفال النازحين بما فيه رعاية غير مباشرة للمجتمع المضيف، ما يطرح علامات استفهام كثيرة حول مستقبل النازحين، في ظل معلومات عن اتجاه المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمات الأمم المتحدة، إلى الانسحاب من لبنان مطلع العام 2017. فكيف سيكون عليه الحال عندها؟
يذكر أن لبنان صادق على اتفاقية «حقوق الطفل» التي تنص في المادة 32 على الاعتراف «بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيراً أو أن يمثل إعاقة لتعليمه، أو أن يكون ضاراً بصحته أو بنموّه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي». وصادق أيضاً على اتفاقية منظمة العمل الدولية الرقم 138 لعام 1973، في عام 2003، والتي تنص على «القضاء تدريجياً على عمل الأطفال». وفي العام 2001 صادق على اتفاقية المنظمة رقم 182 لعام 1999، ونصّت على «القضاء الفوري على أسوأ أشكال عمل الأطفال».

المصدر: (السفير)