بين الشلل والأمل: حكاية محمد

بالعربي: كتب: يافا أحمد 

و هنا وهناك. هنا يقف على الأرض ويمشي حاثاً خطاه نحو الأمام، وهناك في اللاوعي عاد محمد زيادة طفلاً، لم يدرك بعد أنه تمكن من المشي.

حصلت هذه الثنائية لابن قرية بيتللو البالغ من العمر 20 عاماً، بعد أن انهالت عليه قوات المستعربين بالضرب عند حاجز بيت إيل العسكري شمال مدينة البيرة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ثم أطلق أحدهم رصاصة استقرت في رأسه، عند حاجز بيت إيل.

قال الشاعر مرة: "أظنها طلقات الغدر حين هوت تكاد لو أبصرت عينيك تعتذر". لكن محمد، حتى وإن لم يستشهد، إلا أن بعض قواه قد تهاوت، وإن أصبح بوسعه المشي، إلا أنه بحسب طبيبه، لم يدرك أو لم يصدق بعد أنه بدأ المشي مجدداً، وكذلك نطقه بات متعذراً، وبات تمييزه بين الكلمات المتشابهة عسيراً؛ محمد لا يميز اليوم بين "محرمه" و"مروحه"، محمد لا ينتظر اعتذاراً على طريقة الشعر والشاعر اللبناني خليل حاوي، لكنه يريد كما كل أبناء الشعب الفلسطيني، أن ينال القتلة عقابهم، وفق القانون الدولي الذي يحرم ما جرى معه، خاصة أن ما حصل مع الشاب موثق بكاميرات عدة قنوات محلية وعربية وعالمية.

أزوره بين الحين والآخر، وفي آخر زيارة له، وجدته يمشي، أو يحثّ خطاه للدقة، ورأيت في عينيه نظرة الرجل الذي يريد أن يقول كل ما يجعله متألماً، رأيت في عينيه صرخة تدوي في أرجاء الوطن كله.. كأنما لسان حال يقول، آن لكم أن تسمعوا صوتنا نحن الضحايا.. وكأن رسالته ليست للاحتلال فحسب، بل لضمير العالم.

ضربه أولئك الذين اندسوا بين المتظاهرين، ويطلق عليهم مستعربون، لكن محمد كما قالت أمه أكثر من مرة، لم يكن يومها ذاهباً للمشاركة في مواجهة الاحتلال، لكنه ذهب ليجلب بعض المعدات الكهربائية لمحله الذي يملكه بقريته.

ضربوه، ليعرفوا منه أسماء الشباب الذين كانوا في المواجهة، محمد لم يكن في المواجهة، ومحمد لم يترك له المجال ليتكلم، فالصمت يومها كان يزيد الضرب، والكلام كما المحاولة، لها النصيب ذاته من تنكيل وعنف أدى في آخر المطاف، لشلل نصفي ونزف في الرأس ومشاكل إدراكية ونطقية، استدعت عملية جراحية إضافية، بعد الأولى التي خصصت لإخراج الرصاصة.

قصة الشاب لم تتوقف عند حدود إصابته واعتقاله في مشفى هداسا دون السماح لأهله بأن يعرفوا مكان ابنهم، حتى اليوم الثامن من الجريمة.

أكمل الاحتلال انتهاكاته، بأن حرم أمه التي توجهت مع والده إلى مستشفى هداسا، رؤية ولدها، لتضطر إلى استراق النظر إلى غرفته كلما فتح الباب لثوانٍ، مع سماعها لصراخه وأناته، ومشاهدة جنود الاحتلال حوله لانتزاع معلومات يفترضون أنها لديه.

نقل محمد لاحقاً إلى رام الله، بعد أن اعتبر الاحتلال أن محمد انتهى، وذاكرته ماتت، بعد أن رأت أقدام الجنود والمستعربين يركلون صاحبها.

صحيح أن محمد زيادة فقد قدراً من ذاكرته، لكن صوت الرصاصة ما زال على ما يبدو يعتذر له.

محمد ينتظر عملية جراحية ستُجرى له في الأردن لزراعة عظام جمجمة جديدة غير تلك التي هشمها المستعربون بآلاتهم الحادة، يقول محمد إن حلمه بالعودة إلى قريته ليلعب كرة القدم مع رفاقه.. لكنه لا يدرك أن هذا ربما بات مستحيلاً.

(الأخبار)