نوستالجيا انتفاضة

بالعربي- كتبت  رحمة حجة : 

منذ مدة زمنية قد تصل إلى عامين، تسود حمّى النوستالجيا في مجالات عدة، حتى أن هذا المصطلح اليوناني الذي يعني "الحنين إلى الماضي" بات لافتًا. يستخدمه رسّامون وصحافيون ومدونون ومطربون ومصوّورون ونشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك/ تويتر/ إنستاغرام)، وغيرهم ممّن يشعرون بلوعة الشوق إلى ما يسمونه "الزمن الجميل"، وهو باعتقادهم أفضل بكثير من حاضرهم.

ويحاول النوستالجيون استعادة "الزمن الجميل" عبر اجتراره، عن طريق استعراض أرشيف من الصور والإعلانات والأغاني، حتى نقله إلى الشارع عبر الملابس؛ إذ لا يخفى على العين كيف أن دور الأزياء تعيد إلى الأسواق عصورًا ماضية من الألوان والتصاميم وأنواع الأقمشة، الممتدة منذ بداية الخمسينيات حتى أوائل التسعينيات، كأن الأبناء يرتدون –مجازًا- ثياب الشباب لذويهم.

وهذه الموجة العارمة من النوستالجيا، تضع غالبية مُلَوّعيها في خانة التذكر والاستذكار لمناقب عصور فائتة والتحسّر عليها، دون البحث في كثير من الأحيان، عن وسيلة لجعل الحاضر أفضل منها، فالماضي "الحلو خلص راح وما عاد يرجع".

وتلقائيًا لا يعوّل النوستالجيون على المستقبل، وإذا ما أرادوه سيختارونه متشابه الإحداثيات مع الماضي، وبلغة مختصرة "مكانك راوح".

الآن، ما الرابط بين المكتوب أعلاه والانتفاضة؟ إنه ببساطة التحوّل النوستالجي لسير الأحداث التي اندلعت في فلسطين منذ أسبوع. إن الجيل الذي يواجه الاحتلال آلياتٍ وجنودًا وقنابل غاز وصوت ورصاصًا حيًا ومطاطيًا و"دمدمًا"، بصدره العاري واللثام على وجهه وحجرٍ في يده أو مولوتوف، متشبّع بالحنين إلى سنوات "النضال والكفاح والانتفاضة" كما الرمزية المفرطة في صور الشهداء والشهيدات والمحاربين/ات القدامى، الذين ارتدوا كوفياتهم حول أعناقهم وغطوا الوجه دون العينين في عملياتهم الفدائية حين "الزمن الجميل"، لكن إلامَ أفضى ذاك الزمن؟ إلى ما نحن عليه الآن! ها هو جيل التسعينيات الذي ولد مع بداية اتفاقيات السلام بين منظمة التحرير و"إسرائيل"، وكان طفلًا مع بداية الانتفاضة الثانية، يُقلق سُبات البلاد عن أحلامها الحقيقية ويُفسد مخططات العدو اليومية بأعماله اللامنهجية واللامتوقعة وغير معروفة الأثر على المدى البعيد.

يرتدي النوستالجيون في المواجهات ثياب الانتفاضة الأولى ويحاربون بسلاح الانتفاضة الثانية ظانين أن هذا "الميكس" قد يصل إلى "انتفاضة ثالثة"، بينما لا شيء تغيّر، سوى بعض القُشور.

المصورون بارعون أيضًا في النوستالجيا، إذ وجدوا في الميدان "الشوتات" العبقرية التي طالما حلموا بها، فالعشرينيون منهم يجتذبون الماضي في صورهم، أما الثلاثينيون والأربعينيون، فإذا فكروا بصورهم قليلًا، قد يخرجون بفكرة لمعرض  يجمع الأرشيف بالآني مسجلين المتشابهات والمتناظرات من الصور.

وللصبايا الجميلات في الميدان أقول، إن دلال المغربي وليلى خالد، لم تكونا مجرد صورة لامرأة بنظرةٍ سهم وكوفية ملتفة حول العنق، لقد كانتا الفكرة، وعقلًا منيرًا مستنيرًا، فلا تغرنكن الصور أو تلهثنَ نحوها، ولا تصدقن إن قال أحدٌ عنكن "مناضلات" فالنضال سنوات من الفكر والتنفيذ حتى تحقيق أهداف كبيرة لا يُختزل في صورة ارتديتن فيها كوفية وحملتن حجرًا أو مولوتوفًا، تمامًا كفكرة الشاعر أو الأديب، فهل يُعَرّف الشاعر بقصيدة أو الأديب ببعض النصوص على "فيسبوك"؟

أما الإذاعات، فموجاتها المفتوحة تغرق أيضًا بأغانٍ من "العصور الذهبية" التي لا تزال تسأل "وين الملايين".. منذ أكثر من 20 عامًا يسأل الثلاثي: جوليا بطرس، أمل عرفة، سوسن حمامي "وين الملايين"؟ ومنذ ذلك الوقت كلمّا وقعنا في أزمة؛ نكرر السؤال، دون أن يجيبنا أحد أو نحاول الفكاك منه بالاعتماد على الذات والتحرر كما حررت شعوبٌ كثيرة نفسها بنفسها، دون مساعدة الآخرين الذين انقسموا بين ثلاثة: متآمرين، مخيبّين لآمالنا، ومخيبّين لآمال شعوبهم.

هذا المشهد النوستالجي الذي سيتجاوز الأسبوع في عمره، لن يصنع التغيير، فاستخدام ذات الأدوات لن يؤدي إلى نتائج مغايرة، إلا إذا توفّر التنظيم والتنسيق والأهم من كل ذلك، الإيمان بأن أرواحنا ليست رخيصة، ودماءنا ليست رخيصة ونستطيع استجلاب الحرية بأقل الخسائر الممكنة وأقل المواجع إذا استخدمنا العقل، ولا أشك في وجود مستنيرين من هؤلاء الشباب الذين انجذبوا لإغراء النوستالجيا من دون أن يكوّنوا ذاتًا منفصلة تتشكل بخبرة السنين الفائتة وتعلّم الدروس وأخذ العبر من السابقين، لا في تقليد أعمى ينتهي إلى ما لا نشاء، حيث اتفاقيات جديدة وعائلات مفجوعة بشهداء وجرحى ومعتقلين.

أنا لا أستطيع نسيان المشهد المرعب لقتل الشاب فادي علّون، وحرق عائلة دوابشة، ولم تنمح بعد، تفاصيل قتل الطفل محمد أبو خضير في ذاكرتي، كما لن ينسى جسدي قشعريرته حين أستعيد مشاهد مجزرة حي الشجاعية، وجميعها مكثفة دراميًا ومحبوكة بطريقة فذة، هي أيضًا نوستالجيا احتلالية، فلا يفتأ مشهد قتل لفلسطيني يحدث حتى يعيدنا إلى نظير له في زمن مضى، بالتأكيد ليس "الجميل"، ولكل منّا نوستالجيته التي تدفع إلى الأمام، نحن بمزيد من الأسى، وهم بمزيد من البطش. وإذا كنتُ أبحث عن انتفاضة حقيقية، فهي تشبه أن يتخلّى أبناء البلاد عن عصبيتهم للأنساب والأحزاب ويكفّوا عن مناطقيتهم، ولست ممن تغريهم صورة لشابين أو فتاتين يرتديان كوفيتين مختلفتين ويقفان إلى جانب بعضهما البعض، أو لصورة ابن مخيم إلى جانب ابن مدينة أو قبّة جامع محاذية لصليب كنيسة..

الانتفاضة بالنسبة لي أن يتوقف بائعو التحف في القدس القديمة عن اقتناء كلّ ما يخص اليهود كي لا يجتذبوهم إلى محالهم، وأن يمحو كل أصحاب الورش والمطاعم في القرى والبلدات المجاورة للمستوطنات اللغة العبرية عن لافتاتهم..

أن أفضّل شراء المنتج المحلي أو العربي على" الإسرائيلي" أو الأجنبي المُساند "لإسرائيل".. أن يعمل الموظفون من الـ8:00 صباحًا حتى الـ3:00 مساءً لا أن "يبصموا" عند الثامنة "دخولًا" وعند الثالثة "خروجًا".. أن يصل كل كفؤ إلى ما يليق به لا أن تُصبح كل مَصلحةٍ مَفسَدة.. أن لا تُقتَل المرأة اليوم وتُنسى قضيتها غدًا.. أن تتوقف الجامعات عن تصدير العاطلين عن العمل.. وأن يتوقف الفيسبوكيون عن شتم وتخوين بعضهم البعض بسبب الآراء المختلفة.. وأن وأن وأن.. تطول قائمة انتظاري، لانتفاضة حقيقية، لا نوستالجيا انتفاضة. 

(الحياة الجديدة)