القضاء الفلسطيني بين البراءة والاتهام

بالعربي- علي دراغمة: كشف مؤخرا عن أسماء لبعض القضاة واعضاء من النيابة العامة الفلسطينية الذين قاموا بعمل اضافي في مؤسسة "مساواة"( فلسطينية غير حكومية)، الى جانب عملهم في جهاز العدالة الفلسطينية ما أثار الشك والتساؤل من قبل المختصين في ديوان الرقابة المالية والادارية، في حين يراها آخرون وضعًا طبيعيًا كون القضاة عملوا ضمن موافقة خطية مسبقة من رئيس مجلس القضاء الاعلى، وكون القضاة لا يخضعون لقانون الخدمة المدنية وانما يخضعون لقانون السلطة القضائية ، ولقرارات مجلس القضاء الاعلى.

يتضح في هذا التحقيق الذي أجرته وطن للأنباء، ان البحث عن قانونية مزاولة القضاة الفلسطينيين واعضاء في النيابة لعمل اخر في مؤسسة مجتمع مدني بإلقاء محاضرات على المحامين المتدربيين الى جانب عملهم كـ "قضاة مصنفين" يحصلون على حقوقهم المهنية والوظيفية والادارية، اصبح حديث المختصين في اروقة العدالة الفلسطينية،  لما في ذلك من خلق حالة تضارب مصالح تؤثر وتمس هيبة القضاء واستقلاله، كما يفتح الباب على مناقشة عمل القضاة كمحاضرين في بعض الجامعات الفلسطينية.

توجهت وطن للأنباء الى مجلس القضاء الاعلى والقضاة والنيابة العامة وهيئة مكافحة الفساد وديوان الرقابة المالية والادارية ومركز مساواة، للتأكد من فرضية ارتكاب مخالفات من قبل بعض القضاة واعضاء في النيابة العامة ومزاولتهم لعمل اخر يحصلون منه على مكافآت مالية من مؤسسات قانونية تعمل في المجتمع المدني المحلي.

صورة عن وثيقة شكوى القضاة

 

وكان السؤال، هل يعتبر عمل القاضي في مؤسسة خارج وظيفته الرسمية ويتلقى منها مكافآت مالية قانونيًا ام انه يتعارض مع عمل القضاة ويضعهم في دائرة الشبهة؟ احد الخبراء قال: ماذا إذا قدر على قاضي البت في قضية لمؤسسة يعمل لديها في وقت اضافي ويتلقى منها المكافآت المالية؟ اليس هذا مثير للشك ؟ في حين يشير آخرون الى ان القاضي يتعامل مع محيطه العائلي والتجاري، ويمارس واجباته الاسرية والاجتماعية مما قد يعرضه للاحراج، او يضعه في موضع الشك. المبرر حيناً ، وغير المبرر احيانا.

وفي هذا السياق، جاءت فرضية وقوع ظلم على القضاة أو عدمه نتيجة تقديم سبعة قضاة من محاكم الضفة الغربية، بشكوى ضد ديوان الرقابة المالية والادارية، بتهمة التشهير بهم، نتيجة قيام الاخير بتحويل معلومات حصل عليها اثناء عملية التدقيق في اوراق جمعية المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء "مساواة"عن عدد من القضاة الى هيئة مكافحة الفساد الامر الذي اعتبره القضاة تشهيرا بهم .

وجاءت شكوى القضاة نتيجة اقدام ديوان الرقابة المالية والادارية على ما سماه القضاة في وثيقة لهم عن افشاء معلومات سرية بشكل مخالف للقانون وارسالها الى جهة غير مختصة لمحاسبة القضاة.

وكان رئيس ديوان الرقابة المالية والادارية الوزير اياد تيم، تقدم ببلاغ ضد القضاة الى هيئة مكافحة الفساد، بتهمة التكسب من خلال عمل غير قانوي مع  مركز "مساواة" ، كما يتضح من مذكرات حصلت عليها وطن للأنباء.

صورة عن وثيقة ديوان الرقابة المالية والادارية

 


جاء في الشكوى المقدمة من قبل القضاة، أن رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية اياد تيم، قد أفشى الأسرار التي اطلع عليها بمناسبة قيامه بأعمالها لجهة غير الجهات المختصة حصرًا في قانون ديوان الرقابة المالية والادارية لسنة 2004، والتي ترفع إليها تقارير الديوان ونتائج اعماله، ذلك ان القضاة يخضعون في مسائلتهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم لقانون السلطة القضائية ، ولمجلس القضاء الاعلى رفع الحصانة القضائية عن القضاة.

ووفقا للمادة(51) من قانون ديوان الرقابة المالية والادارية، فإنه لا يجوز افشاء المعلومات التي يطلع عليها الديوان او العاملون فيه،بحكم وظائفهم وتعتبر هذه المعلومات سرية ،ولا يجوز إفشاؤها  او اطلاع الغير عليها الا للقضاء فيدع وىناجمة عن أعمال الرقابة المالية  والإدارية  فقط، وللجهة المختصة بالديوان أو المرجع الرسمي الذي ترفع إليه تقاريره وتوصياته، ونتائج أعماله بمقتضى أحكام قانون الديوان.

وعندما توجهت وطن للأنباء الى ديوان الرقابة المالية والادارية للاستفسار عن القضية اجاب مدير عام ديوان الرقابة المالية والادارية شحادة علاونة بالقول: نحن نعمل ضمن القانون، وما يصدر عنا ينشر ضمن التقرير السنوي الذي يقدم  للسيد الرئيس، و جاءت اقوال علاونه هذه رغم وجود وثيقة تثبت ان ديوان الرقابة المالية والادارية ارسل المعلومات المتعلقة بالقضاة الى جهة غير مختصة بمحاسبة القضاة وهي هيئة مكافحة الفساد بطريقة مخالفة للقانون ، ويدعو فيها القضاة الى التفكر بشأن السبب الذي حدا بديوان الرقابة المالية والادارية الى اتخاذ هذا القرار ، خاصة وأن مدير ديوان الرقابة المالية والادارية قاض سابق انتقل للعمل في الديوان مديرا له من القضاء .

صورة عن وثيقة الدعوة التي قدمها ديوان الرقابة المالية الى هيئة مكافحة الفساد

وكانت هيئة مكافحة الفساد وهي هيئة مختصة فنيًا وقانونيًا في جرائم الفساد ردت بواسطة  كتاب خطي وبلاغ المشتكي عليهم، وهم القضاة، وأعلنت ردها البلاغ لعدم وجود شبهة فساد من خلال مذكرة رسمية مرفقة مع هذا التحقيق.

وجاء في رد هيئة مكافحة الفساد أن" قيام المبلغ عنهم من السادة القضاة وأعضاء النيابة العامة بالتدريب أو عمل دراسات قانونية أو إعطاء محاضرات مقابل مكافآت لا ينطوي بحال من الاحوال على اي شبهة بارتكاب أي فعل من أفعال الفساد وفق التعريف  الوارد في المادة 2 من قانون مكافحة الفساد المعدل رقم 1 لسنة 2005 ".

ووفقا لوثيقة هيئة مكافحة الفساد التي حصلت وطن للأنباء عليها من جهات ذات صلة، فقد اتضح أن مشاركة  القضاة وأعضاء النيابة تمت بتكليف من رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام ، وانهم كانوا على علم بتقاضي المشاركين من القضاة واعضاء من النيابة لمكافآت لقاء عملهم خارج الجهاز القضائي، مقابل الدراسات القانونية او المحاضرات التي كانوا يقدموها بالتعاون مع مؤسسة مجتمع مدني وبعض الجامعات الفلسطينية.

صورة عن وثيقة هيئة مكافحة الفساد

وطالب القضاة في وثيقة حصلت وطن للأنباء على نسخة منها والتي تطالب بـ "اتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة لإحالة المشتكى عليها للمحكمة المختصة، اعمالا لنصوص قانون الرقابة المالية والادارية وقانون العقوبات وقانون الاجراءات الجزائية الساري، لإيقاع العقوبة الرادعة بحقه عن كافة الجرائم المذكورة".

وفي تواصل لـ وطن للأنباء مع المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء "مساواة" فقد قررت الأخيرة تشكيل لجنة خاصة من بين اعضائها للوقوف على القرار الصادر عن هيئة مكافحة الفساد والقاضي رد البلاغ الوارد والمقدم من ديوان الرقابة المالية والادارية لعدم وجود شبهات فساد وفق المادة 2 من قانون مكافحة الفساد، وكذلك مناقشة  قرار نقابة المحامين المرسل الى رئيس ديوان الرقابة المالية والادارية بخصوص الشكوى الجزائية المقدمة للنائب العام.

بدوره، قال رئيس مركز "مساواة" ابراهيم البرغوثي لـ وطن للأنباء : قيام السادة القضاة وأعضاء النيابة العامة بتدريب المحامين تم استنادا الى اتفاقيات خطية تمت ما بين مساواة ومجلس القضاء الاعلى والنائب العام، وهي اتفاقيات علنية منشورة في العدد 16 من نشرة عين على العدالة، كما أن رئيس مجلس القضاء الاعلى افتتح الدورات،وإن النائب العام عبد الغني العويوي ومجلس القضاء الاعلى هم من اختاروا وكلفوا القضاة والنيابة العامة الذين قاموا بالتدريب ويعلمان ان مساواة قد خصصت مكافآت مالية للمدربين كما هو متبع لدى معهد التدريب القضائي ولجنة تدريب المجلس نفسه".

ولكن وطن للأنباء حصلت على وثيقة صادرة عن مجلس القضاء الاعلى ( برآسته الحالية ) تطالب القضاة بإيداع المبالغ المقبوضة الى الخزينة العامة ما يشير الى اعتراف مجلس القضاء الاعلى ان هناك تجاوز للقانون وبمعرفة  وهي الجهة التي وافقت وكلفت القضاة المذكورين بإعطاء المحاضرات ،وجاء فيها :

وثيقة مجلس القضاء الاعلى

 

تبعًا لكتابي رئيس ديوان الرقابة المالية والادارية – رقم (830، الصادر بتاريخ 19/5/2015 ورقم (1137) الصادر بتاريخ 6/7/2015-، اللذان اعتبرا التعاقد مع مؤسسة مساواة مقابل اجر مادي، والمبلغ الذي استوفيتموه، لقاء ذلك ناتج عن مخالفات لأحكام القانون، قرر مجلس القضاء الاعلى ، بجلسته رقم(7) لسنة 2015" توجيه كتب للسادة القضاة المعنيين لمطالبتهم برد المبالغ المقبوضة، لأجل تسليمها الى الخزينة ......".تنفيذا لهذا القرار، نتمنى على سعادتكم تسليم، الامانة العامة، المبلغ الذي قبضتموه من المؤسسة المذكورة وقدره  (....) كي يتسنى تسليمه للخزينة، ومخاطبة معالي رئيس الديوان بهذا الشأن.

من جانبها أكدت هيئة مكافحة الفساد لـ وطن للأنباء صحة الوثائق الصادره عنها من مراسلات تتعلق برد الهيئة على رئيس ديوان الرقابة المالية والادارية، وكانت وطن للأنباء قد حصلت عليها ضمن تحقيقها في القضية .

يشار الى ان قانون السلطة القضائية ينص في المادة (29) منه على أن: 1. يحظرعلى القضاة ، القيام بأي عمل تجاري أو بأي عمل آخر مقابل أجر أو بأي عمل آخر لا يتفق واستقلال القضاء وكرامته.

2.  لمجلس القضاء الأعلى أن يضع نظاماً يحدد الأعمال التي لا يجوز للقاضي مباشرتها لأنها تتعارض مع واجبات الوظيفة القضائية وحسن أدائها.

أما المادة 28 من القانون هي الاخرى تقول :

لا يجوز للقاضي القيام بأي عمل تجاري ،كما لا يجوز له القيام بأي عمل لايتفق واستقلال القضاء وكرامته ، ويجوز لمجلس القضاء الأعلى أن يقرر منع القاضي من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها.

يشار الى إن القانون حدد الأعمال التي يحظر على القضاة القيام بها، وهي الاعمال التجارية، وتلك التي تتعارض مع استقلال القضاء، واعطى المجلس الحق بمنع اية اعمال تمس بهيبة القضاء، وفي هذا الشأن، يقول بعض المهتمون أن قيام القضاة بالتدريس في الجامعات او التعاون مع مؤسسات مجتمع مدني بهدف نشر الثقافة القانونية لا يندرج ضمن الاعمال التجارية ، وليست من الأعمال التي تمس هيبة القضاء، خاصة وان مجلس القضاء الاعلى الحالي عقد شراكات مع جمعية البنوك الفلسطينية وشركات التأمين ، يقوم بها الأخير بتنظيم ورشات عمل للقضاة وينفقون عليها .

وقال مصدر قضائي لـ وطن للأنباء "إن كانت هناك أية اعمال يمكن أن تؤثر على استقلال القضاء مثل حصول القضاة على مكافآت مالية مقابل التدريب أو مكافآت مالية (مياومات) بدل سفر كتلك التي تقدم من بعض المانحين للقضاة وأعضاء النيابة الذين يشاركون في بعثات سفر دراسية للخارج، ينبغي أن يصدر مجلس القضاء قرارات واضحة وشفافة يمنع القضاة من الحصول على هذه المكافآت مستقبلاً، علماً بأن مثل هذه الإجراءات كانت تحظى بموافقة مجلس القضاء الأعلى من قبل".

واضاف: قد يكون من المناسب لاحقاً ادماج مثل هذه المفاهيم في قواعد مدونة السلوك، وأن يراعى ضمان مشاركة القضاة طوعاً في الانشطة التعليمية والورشات المهنية ذات العلاقة بالشأن القضائي".

الخلاصة
ما تبين لدينا ان هناك موافقة من مجلس القضاء الاعلى على عمل القضاة ولكن هناك ايضا امر بتسليم المبالغ التي حصلوا عليها وايداعها في خزينة المجلس الامر الذي يتناقض كليا مع الموافقة .

ووجدنا ان هناك عدم انسجام في القوانين فيما بينها وربما يكون هذا طبيعي ان لا تنسجم القوانين ولكن تم استغلال هذه القوانين بين مؤسسات ذات الصلة كلاً بطريقته ، فنص قانون هيئة الرقابة المالية والادارية يتعارض مع نصوص هيئة مكافحة الفساد، والاثنان في تعارض  مع قانون السلطة القضائية والذي يشكل قوة أكبر من القوانين السابقة ويقترب من كونه قانونا اساسيا ينظم عمل السلطة القضائية كونها احدى سلطات الدولة الثلاث.

ذلك يتطلب من المحكمة العليا بصفتها (محكمة دستورية) ان تبت في هذا التعارض وتبين حدود وصلاحيات كل قانون منها.
ولأننا نسير في منعرجات قانونية وفي حقل القضاة ملوكه، فان ما اتضح لدينا هنا ان هناك تجاهلا لقوانين يعرفها الجميع وتم تجاوزها بعلم ومعرفة مسبقتين، الامر الذي يضع علامات استفهام كبيرة حول آليات عمل الجهاز القضائي وعلاقة السلطة القضائية بالتنفيذية وبالمجتمع المدني.

مرفق وثائق صادرة عن هذه القضية ونحتفظ في وطن للأنباء على اسماء القضاة ووكيل واعضاء من النيابة علما ان عدد القضاة المتضررين اكثر من سبعة قضاة.

(وطن للأنباء)