رياض أطفال في غزة .. مكاره صحية وسط إهمال رسمي وشعبي

بالعربي:  في قبو مسجد بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تستقبل روضة (ع-ر) غير المرخصة منذ 20 عاما نحو 200 طفل على فترتين، ضمن مساحة لا تتجاوز 170 مترًا. لون جدران الغرف يميل للسواد لغياب النظافة وانتشار الرطوبة. إنارة بالكاد تضيء، نوافذ صغيرة، وباب رئيس أكل الصدأ معظم أجزائه.

الروضة المرخصة (ر-غ) في مدينة غزة لم تكن أحسن حالا. إذ وجدها معد التحقيق غارقة في الظلام، ليس فقط لانقطاع الكهرباء، بل لأنها تحوي نافذة وحيدة، ينسل منها الضوء والتهوية إلى غرفة تفوح منها رائحة كريهة، بمساحة لا تتجاوز 20 مترا مربعا. في هذه الغرفة يحشر أكثر من 30 طفلا ومعلمة وحيدة.

لكن أيا من الجهات المسؤولة، لم تتفقد هاتين الروضتين أو غالبية الرياض في غزة، التي تضم 468 روضة مرخصة، تستقبل نحو 45 ألف طفل، وفق إحصاءات وزارة التربية والتعليم. هذا الرقم يشكّل ربع الأطفال في جميع الرياض المنتشرة في غزّة، ما يؤشر إلى أن ثلاثة من كل أربعة أطفال يلتحقون برياض غير مرخصة، لا تخضع لإشراف أي من وزارتي التربية والتعليم أو الداخلية. حال الرياض المزرية – المرخصة وغير المرخصة- تؤثر على صحة الطفل ومستوى تعليمه، حسبما يوثق هذا التحقيق.

القانون الفلسطيني المعدّل عام 2000 ينيط مسؤولية إغلاق الرياض غير المرخصة بوزارة الداخلية، بعد أن تتلقى بلاغا بذلك من وزارة التربية والتعليم الجهة المسؤولة عن منح التراخيص. على أن وزارة التربية ترفض التعامل مع الرياض غير المرخصة فيما تحجم وزارة الداخلية عن إغلاقها، حسبما يوثّق هذا التحقيق.
رئيس قسم رياض الأطفال في الإدارة العامة بوزارة التربية والتعليم شيرين المصري ترفض الإجابة عن أسئلة معد التحقيق، بل وحاولت طرده من مكتبها في أول زيارة له للوزارة بغزة مطلع 2014.  ولم تقدم إجابات عن أسئلة وجهت لها حول مخالفات الرياض.

وتكرر تهرب المسؤولين من الرد عن ذات الأسئلة. إذ تقول مديرة دائرة التعليم الخاص في وزارة التربية حنان الحاج أحمد إن “عدد الرياض غير المرخصة أقل بكثير من الأعوام الماضية؛ 168 فقط”. وتضيف: “لا يوجد عدد دقيق، لأن هناك رياضًا جديدة تفتتح بين فترة وأخرى، دون الحصول على ترخيص. ووزارة التربية مسؤولة عن مراقبة الرياض المرخصة فقط”. وبذلك تبقى الرياض غير المرخصة خارج دائرة المراقبة.

إجراءات على الورق

مدير عام التعليم العام في الوزارة محمد صيام يؤكد أنها “اتخذت إجراءات مشددة” بحق الرياض غير المرخصة، لافتا إلى أن “العدد قلّ كثيرا عن العام الماضي، ونحن نواصل جهودنا مع وزارة الداخلية التي تملك صلاحية إغلاق غير المرخصة”.

ولاحظ معد التحقيق أن الإجراءات المشددة تمثلت بزيادة البلاغات التي يتم إرسالها لوزارة الداخلية.

في المقابل، يؤكد وكيل وزارة العمل (السابق) صقر أبو هين إن “العدد يفوق بكثير 168 روضة غير مرخصة” مرجحا اقترابه “من عدد الرياض المرخصة”.

نائب المدير العام للشؤون العامة والمنظمات غير الحكومية في وزارة الداخلية، أيمن عايش، يبرر التقصير في تنفيذ الإجراء: “نحن نعمل بروح القانون، فالهدف ليس إغلاق هذه الرياض، لإن اغلاقها سيخلق أزمة حقيقية نتيجة قلة عدد رياض الأطفال في القطاع”. ويضيف عايش: “نرسل تحذيرا للرياض المخالفة، ونتابع لتحسين شروطها، وإذا لم تحسن من شروطها نوقف عملها لحين تحسن الشروط، وهذا الأمر يجري بالتنسيق مع وزارة التربية. فلا يمكن وقف عمل روضة في منتصف العام الدراسي خوفا على مصير الطلاب. كذلك يتم التعامل مع الرياض المخالفة حسب حاجة المنطقة لها، هناك مناطق لا يوجد بها أي روضة”.

ولم يتمكن معد التحقيق من الحصول على عدد الرياض التي أغلقت والإنذارات الصادرة عن وزارة الداخلية في السنوات السابقة، وذلك لتعرض أرشيف الوزارة للقصف في العدوان الأخير على غزة، وفق عايش، الذي أكد أنه لم يتم إغلاق أي روضة غير مرخصة في عام 2014.

ولا تخضع الرياض غير المرخصة لرقابة وزارة التعليم، بحسب نائب مدير عام الصحة المدرسية في الوزارة تيسير الشرفا. ويرى الشرفا أن “الارتفاع الكمي في أعداد رياض الأطفال لم يقابله تحسنا في نوعية الخدمات مقارنة بمستوى الأداء النوعي المطلوب في مراحل الطفولة المبكرة”.

ويشتكي من أن شح “الموارد المتاحة لوزارة التعليم (بحيث) لا تُمَكِّننا من الرقابة الصحية والتفتيش على الرياض المرخصة، فنحن نراقب ونتابع المدارس الحكومية أيضاً”.

الوكيل المساعد للمعلوماتية والتخطيط والتطوير في وزارة الداخلية المهندس أسامة قاسم زوَّد معد التحقيق بأحدث إحصائية (2014) عن عدد الأطفال (بين ثلاث وخمس سنوات) في قطاع غزة (سن طلاب الرياض):

في جولة داخل 32 روضة -20 منها بدون ترخيص- وجد معد التحقيق أن جميع الرياض غير المرخصة لا تطابق الشروط، فيما تباينت نسب تطبيق الشروط في الرياض المرخصة.

شروط الترخيص تُلزم الرياض بوجود وحدة طوارئ داخلها. لكن هذه الرياض -المرخصة وغير المرخصة- لا تمتلك وحدات صحية متكاملة. وقد عاين معد التحقيق هذه الوحدات فوجدها تحوي شاشا ومطهّرا فقط، فيما تفتقد لأدوية معالجة الحروق.
لدى وزارة التربية روضتان حكوميتان فقط؛ (السلام) شمال القطاع وخليل الوزير التي قصفت بالكامل خلال عدوان تموز/ يوليو 2014). كما يوجد لدى الوزارة 14 كانتونا موزعا داخل مدارس قطاع غزة الحكومية، حسب المنطقة الجغرافية لمديريات التربية والتعليم السبعة. تبرع بهذه الكانتونات مؤسستا اليونيسيف واليونسكو لأطفال التمهيدي، وجميعها تمثل فصلًا واحدا فقط. ووفق مشاهدات معد التحقيق فإن حال الرقابة على هاتين الروضتين تماثل سائر الرياض في قطاع غزة.

بين التربية والداخلية

وتصر وزارة التربية والتعليم على أنها “لا تمنح أي روضة ترخيصا، قبل زيارتها ومتابعتها مرة كل شهرين، والتأكد من سلامة الشروط فيها”، بحسب حنان الحاج أحمد. وتؤكد انخفاض أعداد الرياض غير المرخصة مطلع 2015 لأن وزارة التربية والتعليم قدَّمت بلاغات -لم تحدد عددها- لوزارة الداخلية، “التي أرسلت سيارات الشرطة بهذه البلاغات لعدد كبير من الرياض”.

في غزة 15 مشرفا/ مراقبا على رياض الأطفال. وتقول الحاج أحمد: “لدينا سبع مديريات تعليمية، وفي كل مديرية رئيس قسم لرياض الأطفال ومشرف آخر. وهذا عدد قليل جدا، إذ نعاني من عجز واضح في الرقابة والتفتيش على الرياض، لقلة الكادر”.

رياض بدون رقابة

مديرة إحدى رياض الأطفال في منطقة غرب غزة – رفضت الإفصاح عن هويتها – تقول إن “(مشرفي) وزارة التربية لم يزوروا الروضة إطلاقا منذ حصولها على الترخيص قبل ست سنوات”. وتؤكد مديرة روضة أخرى في شرق غزة أن “المراقبين زاروا الروضة، منذ عام تقريبا مرة واحدة. وقبل ذلك لم يصل أحد للمتابعة والتفتيش”.

ومن خلال الملاحظة فإن هذه الرياض لا تلتزم بشروط الترخيص بالكامل، خصوصا فيما يتعلق ببنود الصحة، النظافة، التهوية والإضاءة، إذ أن روضة )م.ج(  تقع في حي الشجاعية  داخل (بدروم) تنزل له بدرج أسفل بناية.

وتحصل الرياض على ترخيص بدون رسوم من وزارة التربية، لكن بعد أن تطبّق شروطها. ثم عليها الحصول على (ترخيص حرفة) من البلدية – 170 دولارا سنويا- للتزود بالخدمات من مياه وشوارع وغيرها، وفق رئيس بلدية بيت حانون د.نازك الكفارنة. الذي يؤكد “هذا مبلغ رمزي مقابل الحصول على خدمات البلدية. وفي هذه الظروف يتم غض النظر عن رسوم الترخيص”.
مديرة روضة تعمل بدون ترخيص منذ ثماني سنوات تؤكد تهرب إدارة الروضة من التقدم لنيل شروط الترخيص، لأنها صعبة التطبيق خصوصا “شروط مساحة الروضة والساحة الخارجية والحمامات”.

وتقول مديرة روضة ثالثة: “وصلنا بلاغ من وزارة الداخلية فيه إنذار بالإغلاق لعدم الترخيص، وكل بداية عام يصلنا إنذار وقف عمل الروضة حتى يتم الترخيص، لكنهم لا يعودون، ونواصل العمل بدون ترخيص”.

لكن المشكلة تبقى في مطابقة الشروط للحصول على الترخيص، في ظل غلاء المعيشة، انقطاع الاسمنت وشُح مواد البناء والحديد.

رياض مرخَّصة زارها معد التحقيق لا تلتزم بشروط الترخيص أيضا، لا سيما فيما يتعلق بالساحة الخارجية، مساحة الغرف، التهوية، الإضاءة، ونظافة المياه والحمامات.

مياه ملوثة ومخالفات صحية ومخاطر على الطرق

من صنبور مرتفع عن أحواض المياه الخاصة بالأطفال داخل روضة جنوب قطاع غزة، ملأت إحدى المعلمات كوبا من المياه لتشرب، وتقول: “هذه المياه خاصة للمعلمات، أما الأطفال فعليهم أن يشربوا بواسطة عبواتهم من الحوض”.

وما إن خرج الأطفال حتى توجَّهوا للأحواض وقاموا بتعبئة المياه والشرب منها، في مخالفة لشروط الترخيص التي تنص على: “وجوب توافر مشارب ومياه صالحة للشرب وبمقاييس تتناسب وعمر الطفل، وبعيدة عن الوحدة الصحية”.

كان بالإمكان رؤية بقايا خبز وفق مشاهدات معد التحقيق، رمل أسود، أكواب فارغة، أوراق “محارم” ذائبة، وعِصِي صغيرة وكبيرة، وحجارة أيضا.. في غالبية أحواض المياه المخصصة للأطفال، والتي تقع معظمها بجانب المراحيض.

ووفقا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للأطفال (اليونيسيف) حول غزة عام 2012، فإنه “يرتبط نحو 26 % من الأمراض في القطاع بحال المياه نتيجة الصلة بين الأمراض الفيروسية والطفيليات من ناحية، والمياه الملوثة من ناحية أخرى. كما أن تلوث المياه الجوفية بالنيترات يشكل تهديدا للأطفال والنساء الحوامل”.

مدير مكتب منظمة الصحة العالمية في غزة محمود ضاهر يقول: “أحد أمراض الأطفال المتصلة بالمياه الملوثة هو “الميتهيموغلوبينميا”، إضافة إلى الإسهال – والذي أصبح شائعاً في قطاع غزة – ويرتبط بتدني معايير النظافة للمياه”.

ويظهر (مرض الميتهيموغلبين) عند استهلاك الطعام والماء الذي يحوي كمية كبيرة من النترات التي تصل إلى الدم، وتحول الحديد ثنائي التكافؤ في كريات الدم (الهيموغلبين) إلى ثلاثي التكافؤ، فتصبح الكريات غير قادرة على حمل الأوكسجين من الرئتين للأنسجة فتظهر نوبات اختناق تؤدي للوفاة، خصوصا عند الأطفال (ويكبيديا الموسوعة الطبية).

وزع معد التحقيق استبانة على 25 ولي أمر أطفال في الرياض حول الأمراض التي يعتقد أنها ناتجة عن تلوث المياه، قلة النظافة، والرقابة داخل الرياض وجاءت النتائج  كالتالي:

الدكتور محمد مناع في مركز السويدي الصحي يقول: “تصلنا يوميا حالات لأطفال مصابين بالإسهال. وهناك حالات لمشاكل في العظام نتيجة عدم التعرض لإشعة شمس الصباح لوقت كافٍ”. هذه الحالات عشوائية من أطفال في عمر الرياض  -مرخصة وغير مرخصة-.

ويقول رئيس قسم مراقبة المياه بوزارة الصحة سابقا خالد الطيبي، “أثبت الفحص الكيميائي لمياه البلدية أن درجة التلوث في مياه قطاع غزة تصل إلى 90 %”. ويضيف الطيبي أن “الأملاح زائدة عن الحد المسموح به، وأكبر مشكلة تواجه مياه الخزان الجوفي هي تسرب المياه العادمة، لاحتوائها على نسبة عالية جدا من النيترات والملوثات الكيميائية، التي غالبا ما تحدث تغييرات في هيموغلوبين الدم”.  وبالتالي فإن عدم توفير مياه مفلترة في رياض الأطفال يدفعهم لشرب مياه البلدية، ما يعرضهم لمخاطر صحية نتيجة احتواء المياه على النترات وملوثات كيميائية.

في شروط ترخيص رياض الأطفال، يحدد البند التاسع ضرورة “التعاقد مع طبيب معتمد للزيارات الدورية للروضة، للتأكد من السلامة الصحية للأطفال”، لكن رياض الأطفال المرخصة التي تفقّدها معد التحقيق لم تلتزم بذلك.

ويوضح الجدول التالي النسبة المتدنية التي سجلتها الرياض (مرخصة وغير مرخصة) في التطابق مع معايير وشروط عمل الرياض، حيث تظهر النتائج أن جميع الرياض غير المرخصة لا تطابق شروط الترخيص، ولا تهتم بها ليكون العامل الأساسي لها هو الربح فقط، أما الرياض المرخصة فإن أكثر من 50 % منها لا يطابق جميع شروط الترخيص:

مسؤولية ضائعة

وتقول مديرة دائرة التعليم الخاص في وزارة التربية، حنان الحاج أحمد، “اجتمعنا مع أولياء الأمور في الرياض غير المرخصة، وطلبنا منهم عدم تسجيل أطفالهم في هذه الرياض لأنها لا تخضع للتفتيش ولا تطابق شروط الترخيص، لكنهم رفضوا ذلك بسبب الوضع المادي فهي الأرخص بالنسبة لهم”.

وحول إجراءات إغلاق هذه الرياض تضيف الحاج أحمد “قطاع غزة يمر بوضع استثنائي صعب، وإغلاق هذه الرياض هو قرار وزارة الداخلية، ونحن نرفع كل شهر قرارات إغلاق من وزارة التربية والتعليم لوزارة الداخلية وهي تتابع الأمر”.

تصل رسوم الروضة إلى نحو ثمانية دولارات شهريا للطالب، تشمل رسوم التسجيل والتعليم كاملة، مقارنة مع نحو 40 دولارا للرياض المرخصة وذات المستوى المقبول.

مديرة أحد رياض الأطفال غير المرخصة جنوب قطاع غزة، تؤكد أن الرسوم التي تحصل عليها من الطلاب بالكاد تكفي المصاريف التشغيلية بما في ذلك رواتب المعلمات. وتقول: “نحصل على حوالي 1200 دولار شهريا من رسوم 120 طالب، ولدينا ست موظفات، ومصاريف تشغيلية أخرى في الروضة، وهذا مبلغ زهيدٌ جداً، ولا يمكن أن نُلَبِّي شروط الترخيص في ظل هذه الأوضاع الصعبة”.

تُجمع عدد من أمهات الأطفال اللاتي التقاهن معد التحقيق على أن الرسوم الزهيدة تظل تحتل الأولوية لدى اختيار الروضة. وتقول أم أحمد من مدينة رفح: “هذه الرياض (غير المرخصة) تقبل رسوما زهيدة وهذا أهم شيء ولا يهم إن كانت مرخصة أم لا”.

فيما تقول والدة الطفل عادل من حي الشجاعية شرق مدينة غزة: “نسعى لتسجيل أطفالنا في رياض الأطفال الخيرية والمدعومة من الخارج، ولكن هذا أمر صعب نتيجة بُعد المكان، وعدم توفر مقاعد فارغة لكثرة عدد الأطفال”. وتضيف: “ما يهمنا في رياض الأطفال هو أن يكون السعر مناسب والمكان قريب”. أما أم المهند من حي الأمل في مدينة خانيونس فترى أن “المعيار الأساسي رسوم الروضة، فالرياض الجيدة مرتفعة السعر، وأنا سجَّلت طفلي في هذه الروضة القريبة – أشارت بيدها لاتجاه الروضة- وليس مهما أن تكون الروضة مرخصة أم لا”.

وتبقى رياض الأطفال المرخصة وغير المرخصة بلا رقابة أو إغلاق ومحاسبة رغم أن الفئة الأولى تخرق شروط ترخيص وزارة التربية فيما تتهرب الثانية من أوامر إغلاق وزارة الداخلية.

أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) www.arij.net