أنا أنتَ وشهيدُ "زعترة"

بالعربي- كتبت رحمة حجة:

فجأة، تنتفض الإذاعة، وتُبهرنا بأغانٍ ثورية أجرأ من سياستها اليومية. حتى أن أغنية لأميمة الخليل تنال اهتمامي لأنني لم أسمعها سابقًا، بينما "عوفر والمسكوبية" التي سجّلت أوان وصولي البيت، كانت الشرارة للجري في ذاكرتي نحوك. لقد اكتشفتُ جُرح كلماتها معك، وتهتُ في موسيقاها بحثًا عن زمن مختلف حين كان الصوت يعلو وتعلو طَرقاتُ أصابعك على طاولتك؛ تناغمًا معها.
الحنين، هو ما يتحرّك في دواخلنا حين نستمع لمثل هذه الأغاني، كما الأمل. إلا أنها لا تتجاوز انفعالًا شعوريًا صاخبًا مدويًا لا يتجاوز فوران الدم، في الطريق السريع بين القلب والدماغ، لنرتاح بعد ذلك حين تصمت الموسيقى، ونشعر بأننا قد فعلنا شيئًا، للبلاد.
أيّ بلادٍ تلك التي لا تستطيعُ مدّ ذراعيها لتنتشلنا من هذا البؤس الذي نغرقُ فيه؟ من منّا مدينٌ للآخر، نحن أم هي؟ لا أعرف لم أفكر في ذلك الآن، وأنا التي تخلصت من هذا السؤال منذ زمن، بعيدٍ جدًا.

أراكَ جيدًا في التفاصيل الصغيرة والمعالمِ الكبيرة، أراكَ بوضوح، ربما أوضح من المطلوب. أستعيدُ صوتكَ تتكلم أو تُدندن أو تصرخُ أو تسخر أو تضحك، أستعيده جيدًا كي لا أنساه؛ ففي الغياب، أصبح لصوتكَ معنى آخر، غير ذلك الذي اعتدتُه. وما الغيابُ يا عزيزي سوى اكتشاف ما كنّا نخشى اكتشافه؟!

نعم، صدقني هذا هو الغياب. أحيانًا نقع في حب أحدهم، ونظلّ نُنكر ونُكابر ونتجه إلى تأويل الأحداث على غير حقيقتها كي لا نتورّط في الحب أو لا نتورط في الآخر، على وجه التحديد.. ثم يغيب، ثم نغيب، لندرك معنى كل لحظة قضيناها ونستعيدها كما لو كانت عبقرية فنان أو رواية باذخة لأحد المؤلفين العُظماء، وقد نحزن لأننا لم نلتقط الجمال حين كان بإمكاننا أن نملكه، بينما نحن الآن، نكتفي باشتهائه!

ويصحّ أيضًا تفسير الأمر معكوسًا. إذ ببساطة نكتشف أن غيابنا لا يُشكل فارقًا لدى أحدهم رغم أن غيابه ليوم واحد كان يُوجعنا. أو اكتشافنا بأننا لا نمُتُ للآخر بأي صلة لأننا ببساطة كذلك، نسيناه في الغياب.

الغيابُ أيضًا يكشف لنا مآثر الراحلين، تلك التي صرنا نفتقدها الآن، ونتمنى أن يعودوا للحياة كي نتشبث بها دون إهمال مقصود أو غير مقصود، على سبيل ابتسامة متبادَلة. وفي هذا التفسير قد يرتبطُ الغياب بالندم، الشر الذي يُنكّد شغَفنا بالحياة.

ومن هذا الباب أدخل إلى بيت الشهيد في كفرراعي. أنتقي إحداثيات غيابه، وربما أقابلها صدفة. أطيلُ  الجلوس مع فاقديه ومفجوعي غيابه، وأرى ما لا يُرى في عيونهم وبين الطيّات الدقيقة لأجفانهم، ثم أُطلّ على المدى المكسوّ بالزيتون، وتُنقذني نسمات الهواء الباردة في هذا اليوم الواقِد، من تصدّع قلبي أمام الدموع وكوابيس النهار التي تشي بغيبة مفاجئة لك، وربما لي، فلا أسهل من غياب مفاجئ وموجع في هذه البلاد، التي يقرر فيها قناصّ إسرائيلي إنهاء حياتنا ويُنفذ قراره دون رادع أو عقاب.

"نحن تحت الاحتلال وكل شيء تحت الاحتلال متوقع مهما كان مؤلمًا"، نعم.. أعرف ذلك، لكن إلى متى سنحتمل يا شاك؟؟ إلى متى ستظلّ النسوة تودع أبناءها بالدمع والآهات ونظل نلهث خلف صور الوداع ونُحيل الخاصّ عامًا ونجعل من كلمات الفجيعة سبقًا صحافيًا؟

كيف للأشياء اليومية والعاديّة جدًا أن تُصبح فجأة صيدًا ثمينًا لنا نتفرّسه بعناية كي نتحدث للعالم عن جريمة قتل عالية القصديّة والترصّد؟ حذاء الشهيد، صوره في استوديو يُتقن الفَلترة والفوتوشوب، بيته غير مكتمل البناء، عيناه اللتان التقطتا صورة أخيرة لعائلته التي تناولت "المسخن" احتفالًا باجتماعها، أمه، أخته، أخوه التوأم، أبوه الذي بكى لأول مرة في حياته، مكان نومه الذي يتوزع حيثما اتفق، الحنفية الخارجية في ساحة الدار التي يتوضّأ منها، "شوالات" البصل المعلقة على دالية البيت في إطلالة على أراضي القرية التي تتفرق فيها بعض البيوت الملونة، كأنها في ألوانها تستجلبُ الفَرح، وأيّ فرحٍ هو الذي يأتي ناقصًا؟ أيضًا أيّ حزن كامل؟ إن أيًا منهما لا نستطيعُ إدراكه!

في لحظة بائسة، أخاف عليك. وأخاف على نفسي. وأعرف لماذا أخاف وأخشى خوفي هذا كما أنني لا أُتقنه! ويُعجبني أنني في اليوم الثاني أمشي مبتسمة ومتعالية على أي شيء قد يسحبُني إلى الوراء، فقط لأنك هكذا، دون سبب، تخطرُ على البال.