مرحبا بك في طهران

بالعربي-كتب منتصر مرعي:  


لم يتبق على وقت السفر سوى ساعات قليلة وأنا لم أحصل بعد على تأشيرة الدخول إلى إيران. كنت مدعوا للمشاركة في مهرجان إيران الدولي للأفلام الوثائقية الذي سينطلق قريبا، ولم أكن متيقنا حتى اللحظة الأخيرة بأنني سأحصل على التأشيرة، ولذلك فقد ذهبت إلى العمل في ثالث أيام العيد بشكل اعتيادي دون أن أتخذ أية استعدادات للسفر. وبعد أن تجاوزت الساعة التاسعة بقليل اتصل بي الملحق الصحفي في السفارة الإيرانية في الدوحة السيد شامسي زاده وطلب مني الحضور لاستلام التأشيرة. كانت مفاجأة! بإمكاني اللحاق بطائرة تغادر الدوحة في حدود الساعة الثالثة. ذهبت إلى السفارة ووجدت في استقبالي الملحق الصحفي.

كان شابا في أواخر الثلاثينات إن أحسنت التقدير، يتسم باللباقة والتهذيب الشديدين، وكانت تبدو عليه السعادة أكثر مني لحصولي على التأشيرة ربما لرغبته في تقديم صورة مغايرة عن تلك التي طبعتها وسائل الإعلام عن إيران والإيرانيين. قد يكون ما سمعته من زملاء قاموا بتغطيات صحفية داخل إيران كان صحيحا، وأن السلطات تفرض رقابة شديدة على تناول أي موضوع أو تصوير أي شيء، لكن أعتقد أن ذلك مبالغا فيه لأنني شخصيا وجدت هذه القيود التي يتحدثون عنها في "البلدان العربية المعتدلة"، وصادفت رجال أمن لا يفارقوننا كالظل في كل مكان تجولنا فيه. وفي حين أن إيران تسمح لقناة الجزيرة بالعمل على أراضيها، وإن بقيود، فإن دولا عربية عديدة تمنعها من ذلك. على كل حال لا يزال الوقت مبكرا كي أرسم الصورة التي سأراها بنفسي، ولا يزال من المبكر أيضا إصدار الحكم على الأشياء قبل فهمها فهما صحيحا.

ما زالت أمامي ساعة للحاق بالطائرة.. على عجل حزمت حقيبة صغيرة وتأكدت من أخذ كاميراتي الفوتوغرافية وجهاز الحاسوب، ودعت عائلتي، وبعد فترة وجيزة وجدت نفسي في الطائرة على ارتفاع آلاف الأقدام نحو الشرق.

رغم أني كثير السفر إلا أنها المرة الأولى التي أتجه فيها نحو الشرق، وأتجاوز الخليج العربي (الرأي) أو الخليج الفارسي (الرأي الآخر) الذي ولدت على ضفافه باتجاه طهران. كان المشهد من الطائرة ضبابيا معظم الوقت، تماما كما هو المشهد الإيراني في ظل الظروف الراهنة، ولم أستطع سوى في لحظات صفاء قليلة مشاهدة الأرض بصورة واضحة.. كانت تضاريس إيران تبدو وعرة من السماء، جبال متناثرة، ووهدان على الأقل في مسار الرحلة بين الدوحة وطهران. كنت أمسك بيدي كتاب الصحفي روبرت فيسك "الحرب الخاطفة"، ووصلت في صفحاته إلى حديثه عن الصورة التي قدمها بعض الساسة البريطانيين عن الأفغان أثناء الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر، وكنت تستطيع أن تقارن بنفسك وبطريقة غير مباشر بين الصورة المشحونة بالمواقف التي يقدمها السياسي، والصورة التي ينقلها الصحفي النزيه.

كان روبرت فيسك الذي غطى الاجتياح الروسي لأفغانستان أواخر 1979 ثم زارها مرارا ليلتقي بن لادن بعد عقدين، كان يتحدث عن كتاب ورثه عن والده ويقول فيه:وجدته عبارة عن "مغامرة إمبريالية" تحت عنوان "قصة الحرب الأفغانية: توم غراهام". إن هذه القصة نموذجية بالنسبة لجيل والدي، فهي قصة عنصرية عنيفة هادرة عن البطولة الإنغليزية والموقف السلبي تجاه بعض القضايا الإسلامية... أما ما تبقى من الرواية فكان قصة مثيرة للانزعاج بخصوص التحيز ضد لون البشرة، ورهاب الأجانب خوفا وكرها، والضغينة ضد المسلمين في الحرب الأفغانية الثانية... وهكذا وُصف الأفغان في تلك الرواية بأنهم "مجموعة رديئة" "متعصبون" "أوغاد"، "عفاريت بمظهر بشري".. من تعابير "الأنذال الأوغاد"، إلى "الذباب" إلى "العبيد" الواقعة في مائة صفحة، يسهل على القارئ أن يرى كيف أن البريطانيين "الأنقياء، النظيفي اليد المستقيمين" الذين شكلوا العالم الذي عاش فيه أبي، نظروا إلى أعدائهم كبهائم. ومع أنه ورد ذكر "جرأة" رجال القبائل عدة مرات و"شجاعتهم" مرة واحدة، فلم تكن هناك محاولة لتفسير وتعليل أفعالهم. فلقد وصفوا بأنهم أشرار حافلون بالبغضاء، ومتلهفون لإثبات إسلامهم بتقطيع أعدائهم البريطانيين. لكن فكرة أن الأفغان لا يريدون الغزاة الأجانب الذين يحتلون بلادهم، غير واردة في الرواية. "انتهى الاقتباس".

بعد ساعة ونصف تقريبا حطت بنا الطائرة على أرض مطار الإمام الخميني في طهران. كانت الشمس تتوارى خلف خمارها كالحسناء في خدرها، وكانت النساء أيضا على متن الطائرة يوارين رؤوسهن بغطاء خفيف؛ فبعد أن كن حاسرات الرأس ويرتدين آخر ما ابتكرته الموضة الأوروبية، شرعن بارتداء وشاح أسود يغطي نصف شعر الرأس بينما يبقى النصف الأمامي منه مكشوفا في أبهى زينته.. إننا الآن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لقد كان هذا الغطاء الذي تضعه النساء على رؤوسهن فقط عند الوصول إلى إيران يشي بأن ثمة غطاء يحجب عنا رؤية إيران على الحقيقة، وأن ثمة وجه آخر غير الوجه الذي نعرفه.

كان الغموض يزعجني لدى دخولي إيران، وتحسبت لإجراءات أمن مشددة، وتفتيش دقيق في "محور الشر". كنت أظن أن شخصا ما سيتبعني من سلم الطائرة لمراقبة تحركاتي كصحفي ومن قناة الجزيرة المثيرة للمتاعب! ولم تمض 5 دقائق حتى وجدت نفسي خارج المطار، ودون أن يوجه إلي أي سؤال أو تفتح حقائبي. مرحبا بك في طهران.. مطار حديث ونظيف يعطي أول انطباع بأن إيران ليست البلد الذي تشوه صورته الولايات المتحدة، ثم تتبرع مخيلة عامة الناس في رسم بقية الصورة الشيطانية عن إيران والإيرانيين. كان في استقبالي في المطار فتاة تتحدث الإنغليزية بطلاقة وتبدو أجنبية فسألتها عن جنسيتها فقالت إنها نصف إيرانية ونصف ألمانية.. ولم نتبادل سوى عبارات الترحيب القليلة ثم أقلتني سيارة من المطار الذي يبعد 80 كيلومترا عن قلب العاصمة طهران. كنت حريصا رغم سرعة السائق في القيادة وسط الزحام الشديد على تأمل كل شيء.. الناس الشوارع السيارات اللافتات المنازل المحلات دور السينما المكتبات.. كانت إيران تبدو لي أنها بخير وأنها عاصمة حديثة نسبيا أكثر من العديد من الدول التي زرتها. ومع ذلك فلا بد أن أتريث في حكمي على إيران لأن ما أراه هنا في طهران، وأعني الصورة الجميلة حتى الآن، قد لا أراه في المدن الأخرى البعيدة والنائية إن قدر لي الذهاب إليها. وصلنا الفندق ويبدو أنه بمستوى أربعة نجوم، غرفه واسعة جدا ونظيفة، قرأت بعض تعليمات أمن الفندق بأن لا أتحدث إلى أي أجنبي لا أعرفه، وأن لا أسمح لأي أحد بتوقيفي أو مساءلتي ما لم يكن شرطيا وبالزي الرسمي، وأن لا أقبل أي عرض لجولة سياحية إلا من شركة معروفة أو تبديل العملة من أي مكان سوى البنوك الرسمية أو من خلال الفندق. أخذت الملاحظات بجدية، ودون أن آخذ قسطا من الراحة خرجت للتجول ليلا في الشوارع، وحاولت قليلا الاحتكاك بالناس في بعض المحلات، وللأسف الشديد كانت اللغة عائقا كبيرا في التواصل لأن الإيرانيين بشكل عام لا يتحدثون الإنغليزية أو العربية رغم أن اللغة الفارسية تكتب بالحروف العربية. دخلت محل تصوير فوتوغرافي لشراء قارئة كرت الذاكرة لكاميرتي، ولم أستطع التواصل مع البائع حتى تدخلت فتاة كانت في المتجر بلغة إنغليزية بسيطة (لا أريد أن أستخدم وصف كتّاب الروايات المحترفين "بلغة إنغليزية ركيكة"!) أن تساعدني، ثم سألتني والبائع من أي بلد أنا فأجبت بأنني فلسطيني، حينها أعاد لي البائع جزء من المبلغ الذي دفعته كنوع من الخصم الخاص، وشرحت لي الفتاة أن ذلك من أجل فلسطين. للأمانة لم أكن أتردد في كثير من البلاد التي زرتها من الإشارة إلى أنني فلسطيني لأنها كانت تستدر نوعا من التعاطف الذي يصرف عني أحيانا محاولة أي شخص استغلالي كسائح أجنبي أو كغريب عن الديار، ليس إلا! خرجت من المتجر وبعد قليل من التجول دخلت إلى مطعم لتناول العشاء.. كان الطعام لذيذا كما خبرته من المطاعم الإيرانية في قطر. طلبت فاتورة الحساب ووضعت مبلغا من المال.. فعاد لي صاحب المطعم الذي أدرك أنني أجنبي لا أتحدث الإيرانية وقال إن المبلغ الذي دفعته أكبر من المبلغ المطلوب ظنا منه أنني أخطأت في حساب العملة، فأخبرته أنها إكرامية لحسن الخدمة فشكرني كثيرا وشكرته في قلبي على أمانته لأنني في أول يوم كنت بحاجة شديدة إلى هذا الشعور.

عندما وصفت الرواية التي تناولها روبرت فيسك في كتابه الأفغان بأوصاف قاسية، علق في ذهني تعبير "عفاريت بمظهر بشري"، وهي نفس الصورة التي تتبادر إلى الذهن كلما سمعت إلى الأوصاف الأمريكية التي تطلق كل يوم على إيران والإيرانيين. ورغم أنني صحفي أمحص كل شيء قبل أن أستقبله بشكل تلقائي، ورغم أنني أدرك خطورة لعبة الإعلام والزيف الشديد الذي تنطوي عليه الصور التي تنقلها وسائل الإعلام المتحيزة، إلا أنني حقيقة وجدت نفسي متأثرا بسطوة الإعلام وسطوة الصورة التي نراها عن إيران، وهي صورة حشود غاضبة تحرق العلم الأمريكي وتهتف الويل للشيطان، أو صور العروض العسكرية للجيش الإيراني كقوة عسكرية ونووية تهدد المنطقة، أو صور الساسة الإيرانيين المتجهمين وتصريحاتهم بالتهديد والوعيد. كان آخر ما قرأته في مجلة النيوزويك عن إيران يندرج في نفس هذا السياق، وللأسف الشديد فإن هذه المجلة الشهيرة لم تتسم - في رأيي- بالتوازن عندما تناولت إيران، ولم تختلف كثيرا عن وجهة النظر الأمريكية الرسمية، واختلط لديها دور الصحفي بالسياسي عندما تحدثت عن مخاوف الولايات المتحدة من اعتقال طهران لأكاديميين إيرانيين اثنين يحملان الجنسية الأمريكية بتهمة التجسس لصالح واشنطن، في حين أن العشرات يقبعون في المعتقلات الأمريكية بحجة مكافحة الإرهاب دون توجيه أي تهمة لهم. الشاهد في هذا كله أنني لم أجد في ظهران "عفاريت بمظهر بشري"، بل وجدت أناس بسطاء كغيرهم من البشر.

الساعة أصبحت الخامسة وأنا أسمع الآن أذان الفجر، بعد أن صليت لم يتبق أمامي سوى ساعتي نوم قبل الاستيقاظ والاستعداد ليوم حافل في المهرجان، وقبل أن أسلم جفني للنوم كانت السماء صافية، وكنت أستطيع أن أرى النجوم من نافذة الفندق الصغيرة وأنا مستلق على السرير.. إنه يوم جميل.