التسوّل دراما ابتزاز عاطفي وسلاح ترهيب معنوي

بالعربي - كتبت: أمينة خيري

أدوات العمل خلف باب الشقة. كل فرد من أفراد الأسرة يضع أدواته في الجزء المخصص لها منعاً للفوضى. وعلى رغم اختلاف مواعيد العمل وأدواته، وتراوح المهام الموكلة لكل منهم، إلا أنهم جميعاً أبناء «كار» (مهنة) واحد حيث المهارات متشابهة، والملكات متقاربة، والغاية واحدة. وكلّما كان هامش الربح كبيراً وفائض ميزان المدفوعات معقولاً، عنى ذلك نجاح الأسرة في مسارها الذي تورّثه من جيل إلى جيل.

آخر ما كانت تتوقعه شيماء، جارة الأسرة ذات المهنة الواحدة، هي أن تنضم لهم. لكنها تقول إنها اضطرت تحت وطأة الحاجة. وعلى رغم أن كبير الأسرة نصحها بأن تصطحب معها ابنها أو ابنتها، وحبّذا لو كانت الإبنة التي تعاني إعاقات عدة، إلا أنها رفضت. وقد ردّ عليها بثقة: «لن يمر شهران إلا وتطلبين مني أن تنضم الصغيرة لك».

الأسرة مهنتها «التسوّل»، لكنْ كلٌّ في مجاله. فالأب يرتدي بزة عمال النظافة التي اشتراها من صاحبها بمبلغ كبير، لا لجودتها، بل لرمزيتها. والأم تحمل كيساً بلاستيكياً مليئاً بعلب الدواء ومعها «روشتة» (وصفة طبية) غير محددة المعالم لكنها تبرزها عنوة للجمهور مؤكدة أنها مصابة بالقلب والمرارة والطحال، وتحتاج علاجاً شهرياً بـــ200 جنيه. أما الأبناء والبنات ومعهم الأحفاد والحفيدات، فمنهم من يقف أمام إشارات المرور متقمّصاً دور منظّف زجاج السيارات الفارهة فقط، أو تلك التي تقودها سيدات أملاً في رهافة قلوبهن ورقة مشاعرهن، ومنهم من يدعي إصابة في قدمه، أو من تحمل طفلاً وتبكي بكاء لا يتوقّف إلا بتوقّف مرور السيارات.

أما الأحفاد والحفيدات، فيستخدمون لغة الابتزاز العاطفي بالعينين، أو النهر اللفظي باللسان، أو التوبيخ المعنوي بالسؤال عن محتويات سندويش يأكله أحدهم أو طعم عصير تشربه إحداهن في مطعم.

ولأن مهنة التسوّل تعتمد في المقام الأول على التخطيط الاستراتيجي والإعداد الجغرافي والمثابرة في المهمة، إضافة إلى الحبكة الدرامية والمهارة الفنية، فإن المتابع يمكنه التعرّف إلى سمات عدة تميّز التجمّعات التسولية الناجحة أكثر من غيرها. فزي عامل النظافة ظل لسنوات طويلة مدعاة للتعاطف وسبباً لتحريك روح العطاء. فعامل النظافة يقوم بعمل جليل إذ يخلّص جموع المواطنين من تلال القمامة والمخلّفات الملقاة في الشوارع، وينفّذ مهمته في أحوال جوية صعبة تتراوح بين برد الشتاء وقسوته وحرارة الصيف ورطوبته، ويتقاضى ملاليم هزيلة. إلا أنه سرعان ما انكشفت حيلة تأجير بزة العمال، ثم بيعها لأغراض استثمارية، فضلاً عن تقاعس عمال النظافة الأصليين عن عملهم ما حوّل الشوارع لمقالب قمامة دائمة إضافة إلى انكشاف لعبة العامل الدرامي في العملية برمتها.

لكن من شبّ على شيء شاب عليه، ومن اعتمد في التسوّل على بزة عامل النظافة في شبابه شاب وهو يرتديها حتى وإن تدنّى دخله وانكشف أمره. ويظل الباب مفتوحاً للأبناء والبنات الذين شبّوا على تسوّل الوالد وتفنن الوالدة في جمع علب الأدوية واقتراض «روشتات» الجيران مع تغيير الحزمة المرضية وفق الموسم من ضغط وسكر ومرارة إلى سرطان واستسقاء وحرارة، ومنها إلى جراحة لا تحتمل التأجيل، أو دفن عزيز كان مريضاً في حال تأزّمت الأمور.

أمور التسوّل وأوضاعه لا ترحم الصغار الذي يشبون على مدّ اليد وطلب المال، فيتحوّلون إلى شحـــاذين محترفين مع دخولهم أعتاب عالم المراهقة واحــتمالات دخول مجالات أخرى ترتبط بالعمل في الشارع، بدءاً بتوزيع المخدرات مروراً بالدعارة وانتــهاء بالنشل. ولا ترحم أيضاً أصحاب الإعاقات، لا سيما الصغار، الذين يتاجر بهم المحترفون أملاً في هامش أكبر من الربح وقدراً أعلى من العطاء.

لكن تبقى «ينابيع العطاء» إما موسمية أو شخصية، حيث من المعروف أن رمضان والأعياد الدينية، ومعها حزمة من المناسبات الاجتماعية تحرّك مياه الينابيع الراكدة وتؤجج مشاعر العطاء المتحجّرة. فالرغبة في إكمال الهالة الدينية أو إشباع الرغبة في التقرّب إلى الله أو انتزاع صك «الرحمة» أو «التعاطف» أو «المحبة»، تشعل سوق التسوّل في مواسم بعينها.

وفي غير المواسم والأعياد، فإن بعضاً من المتــسوَّل عليهم يجد نفسه مرحّباً بفكرة إعطاء الشحاذ جنيهاً أو ربما خمسة، ومساعدة الشحاذة بمـــا فـــي جيـــبه في أوقات الشدّة وأحوال طلب العـــون مــن السماء لأنهاء معاملة ناجحة، أو التوفيق في اختبارات مقبلة أو تفعيل أمنيات مؤجّلة.

لكن الجانب الآخر من منظومة التسوّل، وهو المتسوّل الذي لن يترك نفسه ليكون تحت رحمة المواسم أو قيد سير الأمنيات الشخصية أو الاختبارات المدرسية، ما يعني ضرورة اللجوء لسلاح الابتزاز حيناً والتهريب أحياناً والسخافة دائماً. فالخارج من محل حلويات راقٍ أو دكان جزارة غالٍ يجد نفسه على الأرجح محاطاً بنظرة تهديد ووعيد من متسوّل يبلغه رسالة بليغة من دون أن ينطق بها، قوامها «أعطني مما أعطاك الله وإلا فالعين فلقت الحجر».

وسواء فلقت العين الحجر أو أقلقت المشتري، فإن الثقافة السائدة التي تخشى الحسد تنغّص على كثيرين، فيشترون حمايتهم من العين بجنيه أو اثنين، ما يفتح الباب أمام الشحاذين للضغط أكثر أملاً في عطية أكبر.

على باب محل جزارة معروف بأسعاره الخيالية وزبائنه الأثرياء، تجلس متسوّلة عجوز تعتمد على تحفيز المشاعر وتأجيج روح المنافسة. يخرج أحدهم بما لذّ وطاب من صنوف اللحوم، فترمقه بعينين جائعتين فيهرع معطياً إياها خمسة جنيهات. وبينما يحاول آخر الفرار مستفيداً بانشغالها، تلمحه فتهرع إليه، فيستمر في تجاهلها. هنا أبرزت المتسوّلة الجنيهات الخمس وتقول بصوت مرتفع: «ربنا يخليه ويبارك له فيما اشتراه وينزل في جوفه وجوف أولاده برداً وسلاماً». ثم حوّلت نظرها صوب الممتنع وقالت: «وينتقم من كل غني طمّاع مستأثر». وقبل أن تقول «اللهم آمين»، كان «الغني الطمّاع المستأثر» دسّ 10 جنيهات في يدها.