جغرافيا المقاومة

بالعربي:;طارق عجيب امتلكت مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ومنذ ولادتها على أرض فلسطين عمقاً جغرافياً عربياً وإسلامياً، وامتد إلى دول أخرى كثيرة جارة أو صديقة. وتشكَّلت في عدد كبير من تلك الدول مجموعات وحركات مقاومة وضعت فلسطين بوصلتها وقدمت كل اشكال الدعم الممكن لفلسطين ومقاومتها بكل فصائلها وحركاتها، وأرسلت الكثير من الدول العربية في مراحل سابقة جيوشها، وقدمت المال والسلاح والرجال لنصرة ودعم هذه االمقاومة للصمود في وجه الاحتلال وإرهابه وجرائمه، وبذلت ما في وسعها لدعم فلسطين في نضالها للتحرر من الاحتلال واستعادة الحقوق المغتصبة، وإعادة المهجرين في الشتات إلى ديارهم.

لكن مع التطورات والأحداث الكبيرة والصغيرة، والمتغيرات السياسية والجغرافية التي طرأت على العالم منذ ما قبل النكبة عام 1948 وصولاً إلى ما قبل الأزمة التي تمر بها المنطقة منذ أعوام قاربت الخمسة، بدأ يتضاءل هذا العمق وبدأت جغرافيات كثيرة وكبيرة بالخروج منه، وانحاز بعضها بشكل فظ إلى الطرف الآخر. انحياز كانت له في بعض الحالات أسباب اكثر فظاظة وقبحاً من خطوة الانحياز بحد ذاتها.

الفكر االصهيوني بالتعاون مع الفكر الغربي الاستعماري كان قد بدأ ومنذ وقت ليس بقصير بالعمل على استثمار نقاط الضعف الكثيرة التي يمتلكها العالمان العربي والإسلامي بعد أن أشبعهما بحثاً وتحليلاً ودراسة لأدق تفاصيل هذين العالمين، ليقع على أكثر من إشكالية بإمكانه أن يستفيد منها إلى الحد الأقصى. وكان لبعضها فعل السحر من حيث النتائج الإيجابية التي انعكست على مخططات الكيان ومشاريعه التي رسمها للمنطقة، فكان الجهل والفقر وقمع الحريات والفساد والتسلط نقاطاً اساسية هيأت هذه المجتمعات لتكون مرتعاً خصباً لنشاطات استخباراتية أنتجت في النهاية سلاح الإرهاب الذي سيكون فتاكاً بيد من يقوده ويستثمره، كونه بُني على أسس إيديولوجية وعقائد متطرفة وتكفيرية، وتفسيرات خاطئة وفهم غير صحيح للدين، ليكون ذريعة لشن الحرب على كثير من الدول والمجتمعات بما يخدم مصلحة من تَقَصَّدَ الخطأ في التفسير والفهم، ليتمكن لاحقاً من التحكم بتلك التنظيمات وفقاً لتفاسيره وفتاويه.
أجهزةُ استخبارات دول كبرى كبريطانيا وأميركا وغيرها سبقت جهاز استخبارات الكيان الإسرائيلي ثم تشاركا بعد ذلك في زرع بذور فتن طائفية ومذهبية وعرقية وإثنية استندت إلى التنوع الكبير الذي تتشكل منه دول المنطقة بشكل عام وبلاد الشام بشكل خاص. فنَفَّذت تلك الأجهزة أدواراً قذرة في افتعال شروخٍ وخلافات وصراعات ونزاعات بين أي مكونين من مكونات تلك الدول، وعلى أي أساس كان، فمن السهل في مجتمعات متخلفة ومتردية كمجتمعاتنا العربية والإسلامية اختلاق شرخ على أسس دينية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية أو عشائرية وقبلية أو اقتصادية أو أي اختلاف آخر يمكن استثماره ليكون موضع اصطدام، وبالتالي نزاعاً أو صراعاً أو اقتتالاً يؤدي بالنهاية إلى شرذمة المكونات وإضعافها واستنزافها لتشكل استنزافاً للبلد برمته بكل مكوناته، ما يفتح أبواب تلك البلد أمام التدخل الخارجي الذي يفضي إلى احتلال مباشر أو غير مباشر. كل ذلك ينتج أهم ما يريده العدو وهو إغراق تلك المجتعات والبلدان بقضايا وصراعات بينية محلية وداخلية مصطنعة، وإشغالها عن القضية الاساسية التي كانت تُوَحِّدُها سابقاً وهي القضية الفلسطينية.
نتيجة لما سبق استمرت الجغرافيا التي تعتبر عمقاً داعماً وخزاناً كبيراً للمقاومة بالتقلص بشكل كبير، إلى أن اقتصرت على مساحات أمست صغيرة نسبياً إذا ما قورنت بما كانت عليه خلال العقود السبعة الماضية، وأمست المقاومة الفاعلة والقادرة على التأثير في العدو محاصرة في أماكن وجودها ومناطق نشاطها، ومقيدة بقيود خارجية وداخلية في الدول التي تشكل طوقاً لفلسطين المحتلة والكيان الغاصب فيها.
هذا التضييق وهذا الحصار دفع بالمقاومة لتطوير إمكاناتها وقدراتها لتتوافق مع هذه الجغرافيا، فحققت خلال فترة قياسية انتقالاً نوعياً طوَّع الأدوات والآليات والاستراتيجيات لتنسجم مع المعطيات الجديدة التي فرضت على المقاومة في محاولةٍ لحصارها وخنقها وإخضاعها، إلا أن المقاومة وبعد أن أحسنت قراءة الواقع واستقراء ما يخطط لها قامت بتحصين نفسها من الوقوع في فخ النزاعات والصراعات البينية المبنية على أسس مختَلَقَة وغير صحيحة، رغم أنها عانت ولا تزال من تداعيات هذه الحال المتردية التي وصلت إليه منطقتنا وشعوبها ومجتمعاتها المختلفة. فكان لما يسمى الربيع العربي والهمروجة الإعلامية المُدَبَّرة أكبر الأثر في تشويه صورة هذه المقاومة، والتأثير بشكل سلبي وكبير في قواعد تأييدها الشعبي التي كانت تغطي مساحات كبيرة من الجغرافيا الحاضنة لها قبل أن يفعل فعله ذلك السُّم الذي وُضع في دَسَمِ ما تُغسَلُ به العقول والقلوب من ضخٍ إعلامي يقلب الحقائق ويزور التاريخ والحاضر والواقع ليبثه مُحَرَّفاً مُفَبرَكاً يأسر أعداداً هائلة من الذين أصبحوا خلال أكثر من عقد من الزمان رهينةَ وسائل إعلامية ومؤسسات فكرية وغير ذلك من مؤسسات كرَّست في أذهان وعقول متابعيها مفاهيم ومبادئ بعيدة كل البعد عن القيم الصحيحة والمعايير السليمة لما يعتبر العمود الفقري لتشكيلنا الإيديولوجي والمعرفي والإنساني، كالدين والثقافة والتعليم وغير ذلك من لَبِنَاتٍ أساسيةٍ نبني بها شخصياتنا وآرائنا وقراراتنا، وبالتالي تتشكل لدينا بوصلة نتبع مؤشرها.
وهنا كان الخلل الرئيس الذي ظهر جلياً عندما تم العبث بشكل مقصود بأسس توجه البوصلة إلى الاتجاه الصحيح الذي يدل إلى فلسطين.
تخلى عن المقاومة في الأونة الأخيرة أكثر من عمق كان داعماً ورديفاً قوياً لها، وانقلبت عليها اكثر من حدود كان من المفترض أن تكون بوابات انفراج لا بوابات حصار، ما انعكس بشكل واضح وكبير على حرية تحركها ووجودها ومناورتها، إلا أنه لم يؤثر مطلقاً على ثقتها بصوابية قرارها، أو على إصرارها وتمسكها بخيارها العسكري في مقاومة الاحتلال، بل على العكس أظهرت المقاومة خلال السنوات القليلة الماضية أنها قادرة على التعاطي بالشكل المناسب والمطلوب منها وبأعلى المعايير مع قضايا المنطقة والعالم. نجاح في التعاطي مكَّنَها من أن تكون رقماً صعباً، وصوتاً حُرَّاً مُرَجِّحاً في العديد من القضايا، لقناعتها وفهمها أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين قضايا المنطقة وقضايا العالم، وأن فلسطين هي بموضع القلب من كل تلك القضايا. لكن اتساع جغرافيا الاستهداف للدول التي يثق المشروع الغربي والصهيوني أنها تشكل اكبر تهديد لمصالحه وعلى أمن ووجود رأس حربته في المنطقة إسرائيل، استدعى بالضرورة أن تتسع جغرافيا المقاومة لتكون حاضرة على كل ساحات الصراع التي ينشر فيها المشروع الغربي الصهيوني أدواته ووكلاءه لتنفيذ أجنداته واستراتيجياته لتصفية القضية الفلسطينية وفرض خريطة جيوسياسية جديدة تختزل رؤيته للمنطقة.