البوكر العربية… الشجرة التي أثمرت

بالعربي-كتبت بروين حبيب:

لنقل باختصار شديد إن الثرثرة حول لجنة تحكيم البوكر العربية لم تؤت ثمارها، لأنها ليست أكثر من حديث هامشي لا يلامس الجائزة. لقد تمنيت فعلا أن تقدم مقاربات حول الكتب التي بلغت القائمة الطويلة، أو القصيرة حتى نستفيد جميعا، ونكتشف ما قد نكونقد أخفقنا فيه، أو على الأقل تسجيل ملاحظات حول نصوص قد تكون ظلمت، بما أن البعض يعتقد أن مزاجية اللجنة تتحكم في الجائزة. لكن هذا لم يحدث لحد الآن، مع أن الفرصة قائمة حتى الشهر الخامس.

والآن لنطوي صفحة الحديث عن لجنة التحكيم، لأنها لن تغير من الوضع شيئا، فبعد أشهر قليلة سيعلن الفائز بالجائزة، وسيُفتح سجال أكثر إثارة وإيجابية من هذا، وسنكتشف أن مستوى القراءة لدى القارئ العربي زاد بشكل ملحوظ، منذ أعلنت جائزة بوكر، وأنه تهافت على روايات القائمة الطويلة منذ إعلانها، ويبدو أن روايات القائمة القصيرة نفذت في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه.

الجدير بالذكر أن البوكر العربية، سواء أنصفت المرشحين أو ظلمتهم، فإنها قدمت خدمة العمر للكتاب العرب جميعا، ولا جائزة أخرى استطاعت أن تحرّك الجمهور العربي نحو القراءة مثلما فعلت البوكر. رغم أنها ليست بحجم جوائز أخرى أكثر قيمة مادية.

ومما تابعته عبر الإعلام العربي، لم أجد من أنصف هذه الجائزة مثل الروائي السوداني أمير تاج السر، الذي رأى الوجه الإيجابي لها، حتى أنه اعتبر موسم القراءة في العالم العربي مرتبطا اليوم بفترة إعلان قوائمها الطويلة والقصيرة والقائمة النهائية. وهي فترة لا بأس بها لتجعل سوق الكتاب ينتعش، وتفتح شهية القرّاء لاقتناء كتب أخرى.

أراهن أنّ من يقف في مكتبة بحثا عن كتاب معين، يستحيل ألا تشده عناوين أخرى تركن بقرب طلبه، وترمقه بإشارات مغرية ليقتنيها. في المكتبات سحر خاص، سواء كانت مكتبات حديثة أو قديمة. وهذا ما كان يجهله الجمهور العربي منذ منتصف القرن الماضي إلى مطلع هذا القرن.
شيء ما مثل الدوّامة عصف بنا، أو مثل المتاهة قذفنا إلى داخلها وتركنا هناك، نبحث عن منافذ أخرى لخلاصنا. كومة الهزائم التي ألمّت بنا، وكومة الأوهام التي حقنّا بها من خلال أنظمة أتقنت تدجين شعوبنا، كانت كافية لجعلنا مجتمعا جاهلا، وجد مئات الأسباب لقطع علاقته مع الكتاب وأهل الثقافة، وأهل الفن، وخلق بديلا مرتبطا بالماورائيات لخلاصه من متاعبه الاقتصادية وضغوطاته النفسية الناجمة عن سحقه كمواطن بدون حقوق.

على مدى نصف قرن أنجبت الحكومات التي اعتمدت انقلابات خطيرة لاستلام السلطة، جيلا يقدس الحاكم ويتبع رجل السياسة للهاوية، ثم بعد مرحلة الخيبة فيه، جاء دور المشعوذين الذين تاجروا بالقرآن وموروثنا الديني بشتى الطرق، لمنح الغارقين في محن عميقة مفاتيح الخلاص النهائية.

إنّها لعبة متقنة شارك فيها الجميع، سواء كمخطط أو كمخرج أو سيناريست أو بطل أو كومبارس… ولنقل أن أغلبية هذه الشعوب كانت «الكومبارس» الجيد والأرخص للأدوار التي لا تخدم سوى سعادة أبطالنا الوهميين.

اليوم ونحن نستعيد آمالنا في قدرة الكتاب على مص همومنا، وتشغيل أدمغتنا المتوقفة منذ دهر بإمكاننا أن نحارب البؤس الذي زرع فينا بنبض جديد وأنفاس جديدة وأنوار تزين عتمة أجوائنا.

نعم أعرف أننا نعيش وضعا سيئا، وحروبا خيالية في وحشنتها وشراستها، لكن مع هذا وحده الكتاب سينقذنا مما نحن فيه. وهنا أتذكر مقولة أخبرني بها كاتب عراقي – أستسمحه لأنني لم أذكر اسمه، فقد لا يريد ذلك، ولا طريقة للوصول إليه في هذه اللحظات- إنه حين جُنّد في الحرب ضد إيران، كان ينسى خوفه وكل مصائبه وهو يقرأ كتابا داخل دبابة، أو في عمق نفق. هل تتخيلون هذه الصورة؟ يمكن لمخرج هوليوودي أن يتخل الموقف ويتقن إخراجه، لكنه أبدا لن يكون بإتقان الواقع الذي عاشه صديقي، وهو في جبهة قتالية لا رحمة فيها سوى النور المنبعث من رواية أو كتاب شعر يصلهم بطريقة تفوق غرابة هذه الحكاية نفسها.

لا شيء يمكنه أن يخلخل علاقتنا بالكتاب حتى إن خمدت هذه العلاقة لأسباب قمعية محضة، فالكتاب سيظل الصديق الأوفى للإنسان، مع الاعتذار للذين يعتبرون ألا صداقة في هذا الزمن إلا مع كلب.

في فيلم سارقة الكتب، الذي أخذ عن رواية الكاتب الأسترالي ماركوس سوزاك، والذي وجه أصلا لشريحة كبيرة من المراهقين، كان السارد هو الموت، وكان بطلا رئيسيا في بناء الرواية باتقان مدهش، ومع هذا لم تكن الرواية سوى رحلة مضيئة تكشف مدى قدرة الكتاب على مقاومة كل أنواع الدمار. صحيح أن رؤية ماركوس سوزاك رؤية غربية للحياة، على حد تعبير بعض أقلامنا، لكنها رؤية إنسانية عميقة يعيشها اليوم جمهور عريض من القراء العرب.

لقد تأثرت جدا حين وصلتني رسالة من قارئة سورية تخبرني فيها بأنها تنتظر الكهرباء بفارغ الصبر لشحن جهازها، لتحميل كتب تقرأها حين يصبح صوت الموت لا يطاق. قراء كثر بنوا علاقة جديدة ووطيدة بالكتاب، رغم صعوبة ظروفهم، وهذا لا يعني أن ما يحدث حولهم لا يعنيهم، بل لأن صوت الكتاب أصبح أعلى من صوت القنابل والرّصاص. علينا أن ندرك جيدا، أن مقولة يوحنا الإنجيلي «في البدء كانت الكلمة» ليست مجرّد تقدمة لما كتبه بل حقيقة ممتدة من بدء الإنسانية إلى يومنا هذا وستظل.

جائزة البوكر بعد هذه المقدمة المقتضبة – لأن الحديث عنها لا ينتهي، وسجال تفاصيلها أيضا لا ينتهي- لا تعني إقصاء من لا حظّ له، كما لا تعني تتويج من لا يستحق التتويج، إنها جائزة لكل روائي، سواء شارك أم لم يشارك، وسواء رأى أن الجائزة أنصفت من بلغوا المرحلة النهائية أو رأى العكس، فهي في كل الحالات استطاعت أن تصنع حراكا ثقافيا ذا أهمية كبرى، إذ يكفي اليوم أن تدخل مكتبة وتطلب رواية من روايات القائمة الطويلة لتشعر بسعادة عارمة حين يخبرك صاحب المكتبة أن الروايات نفدت وعليك أن تنتظر الطبعات الثانية.

هذا ما كان يحدث في زمن يركض فيه الكاتب خلف من يقرأه، يهدي كتبه على حسابه لكل من يعرفهم ولا تقرأه الأغلبية، يدعوهم لحفل توقيع روايته فيشعر بالحرج وهو يجرهم جرًّا لحفل التوقيع وكأنه يعاقبهم. علينا أن نعترف بأن هناك قارئا اليوم خارج دائرة معارفنا، يبحث عن كتاب قرأ عنه في الصحف، وأصبح لديه كاتبه المفضل، ونوع أدبه المفضل، وجيد أنه يذهب للكتاب بمحض إرادته، وخلال الثماني سنوات، وهي عمر البوكر العربية، نمت علاقة صداقة بين قارئ جديد والرواية. علاقة جيدة، ويبدو أنها ستدوم وتدوم وتدوم… لأنه خلال هذه السنوات اتسعت دائرة القراءة ولم تضق. وهي في اتساع دائم، ومظاهرها الإيجابية أكبر بكثير من السلبيات التي يذكرها البعض، وهم بعيدو النظر عن نمو شجرة القراء الكبيرة وهي تزين مشهدنا الثقافي وفي كل موسم قطاف نأكل من ثمارها. وللكلام بقية إن شاء الله..